العقيبي (١) المقرئ ، كان إماما في القراءات وموادها ملازما للمشتغلين ، انتفع الناس عليه بدمشق ورأس فيها وانفرد ، ثم بمكة ثم بالمدينة ، وكان من الأولياء وأهل الفراسة وكان فيه حدّة عظيمة على الطلبة وهيبة عليهم. توفي رحمهالله في سنة أربع وستين وسبعمائة.
وكان في الحرم الشريف جماعة من المؤذنين الأخيار ، منهم الشيخ الإمام العلامة أقضى القضاة جمال الدين محمد المطري (٢) الأنصاري الخزرجي العبادي ، كان إماما من أئمة الحديث والتاريخ والفقه ، والمشاركة في العلوم. ولي نيابة الحكم والخطابة والإمامة عن القاضي شرف الدين الأميوطي ، وكان متخلقا بأخلاق كل من ذكرته من الصالحين ، ليس منهم شيخ ولا كبير قدر إلا وهو معه في حوائجه يساعده في قليله وكثيره ، لم نجد بعد والدنا مثله في الإحسان إلينا والشفقة علينا في تربيتنا ، وتعليمنا والسعي في مصالحنا. إن قلت : قام مقام والدنا فما تعديت خطّ الاستواء.
كان لكل قادم إلى المدينة كالأهل لهم في إسكانهم وكسوتهم ، والتعريف بهم وتربيتهم عند الشيخ والخدام ، وكان حسن المحاضرة ، إذا جلست إليه لم تحب أن تفارقه. لم يأت بعده مثله ولا علمت فيمن كان في عصرنا من له فضله ، كان جامعا للمحاسن والفضائل ، صدرا من صدور الأفاضل ، وقد تخلل ذكره مع من ذكرنا من الشيوخ العاملين والأولياء الصالحين. لم يسمع أحسن من صوته في المؤذنة ، كان يفضل على صاحبه محمد بن إبراهيم (٣) ، إلا أنه كان لا يبذل علمه كما كان محمد بن إبراهيم ، كان في عزة نفسه والمحافظة على مروءته في أعلى المقامات وأسنى التنزهات.
__________________
(١) هو : ناصر الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله الدمشقي القلعي ، ويعرف بالعقيبي. ترجمته في : «العقد الثمين» ٢ / ٦٣ (٢١٥) ، «التحفة اللطيفة» ٢ / ٤٩٧ (٣٨٥٤).
(٢) هو : جمال الدين محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الأنصاري الخزرجي العبادي الساعدي ، المعروف بالمطري. مصنف كتاب : «التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة». ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٤١٣ (٣٦٠٤) ، «الدرر الكامنة» ٣ / ٣١٥ (٨٤٥) ، «المغانم المطابة» الورقة ٢٦٢ / ب.
(٣) يعني : محمد بن إبراهيم الكناني ، رئيس المؤذنين. وقد تقدم ذكره.