على عاقبتها فلا يمضي يوم حتى يخبر بما يكون من أمرها ، وذلك شيء كان منه دائما للإخوان والمعتقدين ، كان مكبا على الصيام والقيام ، ولسانه لا يزال رطبا بذكر الله وتلاوة القرآن ، إذا قرأ القرآن لا يقرأ كقراءة الناس اليوم ، بل يرفع صوته ويرتله ترتيلا عجيبا مع تدبر وتأمل حتى يغيب عن حواسه ، وكانت قراءته في المصحف نظرا ليقوى بذلك على التدبر ولأنها أفضل من القراءة غيبا ، وله شيء من التصنيف ذكر فيه أحوال القوم وطريقتهم ، وفصله بمواعظ وتقريبات ينتفع بها من وقف عليها.
ذكر لي ـ رحمهالله ـ أنه لما قدم المدينة سكن في رباط السبيل وهو على قلة وفاقة ، وكان يطوي الأيام لا يجد شيئا ولا يفطن له لتعففه وتكففه ، حتى سقطت قوته وخشي على نفسه.
قال : وكان جواري رجل صالح يذهب كل يوم إلى البر ، فيأتي بحزمة حطب يبيعها ويتقوت بها وهو شيخ كبير ، وكنت أشفق عليه لما أرى ضعفه ، وكنت اقرأ على الشيخ عبد الحميد (١) القرآن تجويدا مع جماعة من الناس لا يعلم أحد بحالي ولا ما أقاسي من الجوع والقلة.
قال : فجلست يوما في القبلة في المسجد فجاءني إنسان من ورائي ورمى في حجري رغيفا في الغلس ، وذهب ولم أعلمه ولا عرفت مكانه.
قال : فأخذت الرغيف فأكلته فوقع في فمي شيء أخرجته فوجدته دينارا مغربيا ، فأخذته وذهبت به في الوقت إلى السوق وأخذت به طعاما وتقوّت به أياما ، ثم عدت إلى ما كنت فيه من الفاقة ، فعاد إليّ ذلك الرجل ورمى في حجري رغيفا وذهب في الغلس ، فلم أعرفه ، فوجدته مثل الرغيف الأول ، فاشتريت طعاما وبقيت متعجبا من ذلك الرجل ، فعند فراغ ما عندي جاء الثالثة فرمى آخر على غفلة منّي فتعجبت من هذا الرجل الذي يعرف الوقت الذي أصل فيه إلى الضرورة ولو أنه كان معي في البيت ما كان يصل إلى حقيقة ما وصل إليه هذا الرجل! ما هذا إلا ملك أو ولي من الأولياء.
__________________
(١) هو : عبد الحميد بن علي الموغاني ، وستأتي ترجمته.