رأيته يسلم المال الكثير للجمالين من أهل الصفراء ويأمنهم عليه ، ويغيب عنه وهو تحت أيديهم فلا يتهمهم ، ومع ذلك تجده محفوظا في نفسه وماله ، وكان لا يردّ من أراد منه قرضا أو معاملة ، يعامل الناس على حسب أخلاقهم ، لم أره ضيق على غريم ولا حبسه ، وله من الأموال العظيمة على صعاليك المدينة ، فإذا طلبوا منه زيادة زادهم وصبر عليهم.
قلت له في ذلك! فقال : من كان لي عنده شيء بفائدة حرصت على رأس المال ، وما بقي إن جاء في الدنيا وإلا فهو لي في الآخرة ، ولذلك حفظه الله في ذرّيته فجاء منهم الفضلاء العلماء.
منهم الفقيه عز الدين عبد السلام (١) وتفقه ودرس في الحرم الشريف في موضع صفي الدين أخيه ، وانتفع به أهل زمانه. توفي والدهم ـ رحمهالله سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
وكان من السادة المحفوظين والأخيار المعدودين الأخوان الصالحان المتحابان في الله ؛ الشيخ أبو الحسن الخراز والشيخ أبو عبد الله محمد الخراز ، أقاما في بيت واحد فوق الثلاثين سنة مجتمعين على صناعة واحدة يخرزون في بيتهم هم وأتباعهم لأنفسهم النّعل وغيرها ، ويرفعون ما فضل عن قوتهم فيتصدقون منه ويؤثرون ، وما بقي رفعوه إلى أيام الحاج ويؤلفون من أتاهم وقصدهم من الأخيار حتى من أتاهم إنه لا يفارقهم.
كان الشيخ أبو الحسن له سابقة في مجاهدة الإفرنج بالأندلس ، فكان لا يزال يعد الوقائع والحروب وما جرى لهم من النصر على أعدائهم ، ويذكر من كانت له شجاعة وفروسية وفتك في النصارى ، وكان حسن التصوير في كلامه يستلذ السامع بحديثه ، فلذلك كان بيتهم لا يزال بالأخيار معمورا وأكثرهم الخدام الأخيار ، وكان لهم أوراد وأذكار مقدرة في أوقات معلومة لا يزال والدي ونظراؤه يأتونهم بعد العشاء الأخرة للذكر وقراءة المسبعات حتى يمضي جزء من الليل ، واتحد بسببهم حال المجاورين والخدام وحصل بينهم إخاء وارتفق بعضهم ببعض في الدين والدنيا رحمهمالله ، وقد تقدم ذلك.
__________________
(١) ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ١ / ١٧٣ (٢٦٠٧) ، «العقد الثمين» ٥ / ٤٢٨ (١٨٠٩).