عظم الخطب بينهم تداعوا إلى الصّلح ، فاصطلحوا على أن يحكم بينهم أوّل من يطلع من الفجّ ـ فجّ الجبل ـ فطلع فرعون بين عديلتي (١) نطرون (٢) ، قد أقبل بهما ليبيعهما ، وهو رجل من فران بن بليّ ـ واسمه الوليد بن مصعب ، وكان قصيرا أبرص ، يطأطئ في لحيته ـ فاستوقفوه ، وقالوا : إنّا جعلناك حكما بيننا فيما تشاجرنا فيه من الملك ، وأتوه مواثيقهم على الرّضا. فلمّا استوثق منهم ، قال : إنّي قد رأيت أن أملّك نفسي عليكم ؛ فهو أذهب لضغائنكم ، وأجمع لأموركم ، والأمر من بعد إليكم. فأمّروه عليهم لمنافسة بعضهم بعضا ، وأقعدوه في دار الملك بمنف ، فأرسل إلى صاحب أمر كلّ رجل منهم ، فوعده ومنّاه أن يملّكه على ملك صاحبه ، ووعدهم ليلة يقتل فيها كلّ رجل منهم صاحبه ، ففعلوا ، ودان له أولئك بالربوبيّة ، فملكهم نحوا من خمسمائة سنة ، وكان من أمره وأمر موسى ما قصّ الله تعالى من خبرهم في القرآن.
وأخرج ابن عبد الحكم عن أبي الأشرس ، قال : مكث فرعون أربعمائة سنة ، الشباب يغدو عليه ويروح.
وأخرج عن إبراهيم بن مقسم ، قال : مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له رأس ، وكان يملك ما بين مصر إلى إفريقيّة.
وأخرج من طريق الكلبيّ عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس ، قال : كان يقعد على كراسي فرعون مائتان عليهم الديباج وأساور الذهب.
وأخرج ابن عبد الحكم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ أنّ فرعون استعمل هامان على حفر خليج سردوس ، فلما ابتدأ حفره أتاه أهل كلّ قرية يسألونه أن يجري الخليج تحت قريتهم ، ويعطوه مالا ؛ فكان يذهب به إلى هذه القرية من نحو المشرق ، ثمّ يردّه إلى قرية في المغرب ، ثمّ يردّه إلى أهل قرية في القبلة ، ويأخذ من أهل كلّ قرية مالا ؛ حتّى اجتمع له في ذلك مائة ألف دينار ، فأتى بذلك كلّه إلى فرعون ، فسأله فرعون عن ذلك ، فأخبره بما فعل في حفره. قال له فرعون : ويحك! ينبغي للسيّد أن يعطف على عباده ، ويفيض عليهم ولا يرغب فيما يأيديهم ، وردّ على أهل كلّ قرية ما أخذ منهم. فردّه كلّه على أهله. قال : فلا يعلم بمصر خليج أكثر عطوفا منه لما فعل هامان في حفره.
قال ابن عبد الحكم : وزعم بعض مشايخ أهل مصر أنّ الذي كان يعمل به بمصر
__________________
(١) العدل : الجوالق (الكيس) لأنه يحمل على جنب البعير ، ويعدل بآخر.
(٢) النطرون : البورق. (يونانية).