ثم ان والده حج في سنة أربع وأربعين فمات في الطريق ، فلما بلغه خبره عاد الى بغداد وأقام بها مديدة.
ثم توجه الى الشام واتصل بالملك عز الدين فرخ شاه بن أيوب ، أخي صلاح الدين ملك الشام ومصر ، ونال منه منزلة رفيعة واستوزره ، فلما توفي فرخ شاه اتصل بأخيه تقي الدين عمر صاحب حماه ، واختص به ودخل ديار مصر ورأى من الجاه والتعظيم ما لم يره أحد ، وكثرت أمواله ، ثم انه سكن في آخر عمره بدمشق الى حين وفاته ، وكان الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق يقرأ عليه الأدب ويقصده في منزله ، ويعظمه ويبجله.
رحلت اليه قاصدا من مكة ، وكنت بها مجاورا ، وقرأت عليه كثيرا من الحديث والأدب ، وكان يواصلني بما أنفقه ، ويجلس لي خاليا للقراءة عليه (٩٨ ـ ظ) وكانت هذه عادته في اكرام الغرباء ، وما رأيت شيخا أكمل منه فضلا ، ولا أتم منه عقلا ونبلا ، وثقة وصدقا وتحقيقا وتثبيتا ورزانة ، مع دماثة أخلاقه ، ولطف عشرته ، وكرم تواضعه ، وطيب مجالسته ، وحسن نشواره (١) ، وكان مهيبا وقورا أشبه بالوزراء من العلماء لجلالته وعلو منزلته عند الملوك والأعيان وسائر الناس ، وكان أعلم أهل زمانه بالنحو ، وأظنه كان يحفظ كتاب سيبويه ، لأني ما دخلت عليه قط إلّا وهو في يده يطالعه ، وكانت له به نسخة في مجلدة واحدة بخط الدقاق النحوي دقيقة الخط ، فكان يراها بلا كلفة وقد بلغ التسعين ، وكان قد متعه الله بسمعه وبصره وقوته ، وكان مليح الصورة طريفا اذا تكلم ازداد حلاوة ، وله النظم والنثر المليح والبلاغة الكاملة (٢).
توفي شيخنا أبو اليمن الكندي في ضحوة نهار الاثنين سادس شوال سنة ثلاث عشرة وستمائة ، ووصل الينا الخبر بذلك في ذي القعدة من السنة الى حلب ، ثم أخبرني بوفاته جماعة على ما ذكرته.
ودفن بجبل قاسيون.
__________________
(١) حسن محاضرة وبديهة.
(٢) لا ترجمة لأبي اليمن الكندي في المستفاد من تاريخ بغداد لابن النجار.