فأوحى الله إليه يا موسى إنك ستراه ، فلم يلبث موسى إلا يسيرا حتى أتاه الخضر عليهما السلام وهو طيب الريح حسن بياض الثياب مشمرها ، فقال : السلام عليك ورحمة الله يا موسى بن عمران إن ربك عز وجل يقرئك السلام ، قال : ورحمة الله وبركاته. قال موسى عليه السلام : هو السلام ومنه السلام والحمد لله رب العالمين ، لا أحصي نعمه ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته ، ثم قال موسى : أريد أن توصيني بوصية ينفعني الله بها بعدك ، قال الخضر : يا طالب العلم إن القائل أقل ملالة من المستمع ، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم ، واعلم أن قلبك وعاء فانظر ما ذا تحشو به وعاءك ، واعزف عن الدنيا وانبذها وراءك فإنها ليست لك بدار ولا لك فيها محل (١٨٢ ـ ظ) ولا قرار ، وإنما جعلت بلغة للعباد ولتزودوا منها للمعاد ، يا موسى وطّن نفسك على الصمت تلقّى الحكمة وأشعر قلبك التقوى تنل العلم ورض نفسك على الصبر تخلص من الإثم ، يا موسى تفرغ للعلم إن كنت تريده ، فإنما العلم لمن تفرغ له ، ولا تكونن مكاثرا بالمنطق مهذارا ، فإن كثرة المنطق يشين العلماء ويبدي مساوىء السخط ، وليكن عليك بالاقتصاد فإن ذلك من التوفيق والسداد ، وأعرض عن الجاهل واحلم عن السفهاء فإن ذلك فعال الحكماء ، وزين العلماء ، وإذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حليما ، وجانبه حزما فإن ما بقي من جهله عليك وشتمه إياك أكثر وأعظم يا بن عمران ، ولا ترى أنك أوتيت من العلم إلا قليلا فإن الانكلاف والتعسف من الإقحام والتكلف ، يا بن عمران لا تفتحن بابا لا تدري ما غلقه ، ولا تغلقن بابا لا تدري ما فتحه ، يا بن عمران من لا تنتهي من الدنيا نهمته ولا تنقضي منها رغبته كيف يكون عابدا ، ومن يحقر حاله ويتهم الله عز وجل فيما قضى له كيف يكون زاهدا هل يكف عن الشهوات من قد غلب عليه هواه أو ينفعه طلب العلم والجهل قد حواه ، لأن سفره الى آخرته وهو مقبل على دنياه ، يا موسى تعلم ما تعلمت لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به ، فيكون عليك بوره ، ويكون لعيرك نوره ، يا موسى اجعل الزهد والتقوى لباسك والعلم والذكر كلامك ، واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات وزعزع ما (١٨٣ ـ و) بالخوف قلبك فإن ذلك يرضي ربك ، واعمل خيرا فإنك لا بد عامل شرا. وقد وعظت إن حفظت ، قال : فتولى الخضر عليه السلام حزينا مكبوتا ينظر.