وهو حي إلّا أن يده قد ذهبت ونصف ساعده ، فلما علموا أن رئيسهم قد مضى وقع الصراخ والبكاء وانطفأ الحرب ، وكفّ الناس وعملوا المواتيم ، وأتيت طرادا فقلت له : ما هذه الحروب؟ فأخذ يحدثني وقال لي : لو لا أن الله من علينا برجل لا أعلم من هو ، غير أني رأيت دابته حنفاء (١) ، وكانت فرسي حنفاء غير انه لم يكن مثلها في السباق والركض ، فقلت له : إن رأيت الفرس (٢) حاسرا تعرفه قال : نعم فحدرت لثامي فقال : الله أكبر الأعسر ورب الكعبة مرحبا ، وقام فقبل رأسي ورأس بني عمي ، وكان صحبني من الحلة خمس من بني عمي كانوا معي في الحرب ، وبقي خفاف تلك الليلة الى الصباح ينزف دمه ، ولم تأت الظهيرة حتى قضى نحبه ، ووقع في الحي البكاء والنحيب وفرغوا من أمره ، وأخذ أهبته ودفن ، وكثر البكاء والنحيب في بني قشير ، وأقمت عند طراد ثلاثا ، ثم ودعته في اليوم الرابع وقلت : المضي ، قال والله (٢٥٦ ـ و) لا أقمت عندي إلّا عشرا لأكرمك وأقضى بعض واجب حقك ، فسأله بنو عمي الانصراف فأذن لهم بعد شدة ، فأقمت أنا عنده يومين بعد ذلك ، وكنت لا أصبر عن الشراب ، إنما هو قوام حياتي ، فقلت لطراد : اني أريد الشراب قال : وكرامة ، وأنقذ فأتاني من بعض الحانات بشراب ، فسمطت (٣) طعاما وشرابا على فرسي وخرجت ومعي عشرة من شباب بني أسد نتنزه ونشرب وأمعنا في السير الى أن وقعنا على موضع خضر نضر فيه شجر قد عرش ، وزهر قد انفرش ، وماء جار ، وموضع طيب فشربنا على الغدير إلى قرب العصر ، ثم فني شرابنا فكررنا راجعين فقال لي بنو عمي : ترغب في السباق إلى الحي؟ قلت : نعم ، وطمعوا فيّ لأنهم رأوا دابتي حنفاء فأطلقنا أعنة خيولنا ومررنا سباقا الى الحلة ، فسبقتهم أنا بأجمعهم بنحو الميل ووقفت على كثيب أحمر على ظهر الحلة على نشز منها أنتظر أصحابي ، فأنا واقف إذ سمعت بكاء وشجى وحنينا وعويلا ، فالتفت فأنا (٤) بجارية جالسة على قبر مبيض جديد ، وهي تبكي بكاء شجي حرق وتندبه وهي تقول :
__________________
(١) الحنف : اقبال القدم بأصابعها على القدم الاخرى. القاموس.
(٢) كتب ابن العديم في الحاشية : صوابه «الفارس».
(٣) أي أعددت سماطا (مائدة).
(٤) كذا بالاصل ، والاقوم أن يقول : «فإذا أنا».