ولما كانت أيام ابن الزبير ، وموت مروان بن الحكم ، وطلب عبد الملك الخلافة بعده لتوليته إياه عهده ، واستعداده للشخوص الى العراق لمحاربة المصعب بن الزبير خرجت خيل للروم الى جبل اللكام ، وعليها قائد من قوادهم ثم صارت الى لبنان وقد ضوت إليها جماعة كثيرة من الجراجمة وأنباط وعبيد أباق من عبيد المسلمين فاضطر عبد الملك الى أن صالحهم (٨١ ـ و) على ألف دينار في كل جمعة ، وصالح طاغية الروم على مال يؤديه إليه ليشغله عن محاربنه ، وتخوفّه أن يخرج الى الشام فيغلب عليها ، واقتدى في صلحه بمعاوية حين شغل بحرب أهل العراق ، فصالحهم على أن يؤدي إليهم مالا وارتهن منهم رهنا وضعه ببعلبك ووافق ذلك أيضا طلب عمرو بن سعيد بن العاص الخلافة وإغلاقه أبواب دمشق حين خرج عبد الملك عنها ، فازداد شغلا ، وذلك في سنة سبعين.
ثم إن عبد الملك وجّه إلى ذلك الرومي سحيم بن المهاجر وتلطف حتى دخل عليه متنكرا ، فاظهر الممالأة له ، وتقرّب إليه بذم عبد الملك وشتمه وتوهين أمره حتى أمنه ، واغتر به ، ثم أنه انكفأ عليه بقوم من موالي عبد الملك وجنده ، كان أعدّهم لمواقعته ، ورتبهم بمكان عرفه ، فقتله ومن كان معه من الروم ، ونادى في سائر من ضوى إليه بالأمان ، فتفرق الجراجمة بقرى حمص ودمشق ، ثم رجع أكثرهم الى مدينتهم باللكام ، وأتى الأنباط قراهم ، ورجع العبيد الى مواليهم.
وكان ميمون الجرجماني عبدا روميا لبني أمّ الحكم أخت معاوية ابن أبي سفيان ، وهم ثقفيون وإنما نسب الى الجراجمة لاختلاطه بهم ، وخروجه بجبل لبنان معهم ، فبلغ عبد الملك عنه بأس وشجاعة ، فسأل مواليه أن يعتقوه ، ففعلوا ، وقوّده على جماعة من الجند وصيّره بأنطاكية ، فغزا مع مسلمه بن عبد الملك الطّوانه وهو على ألف من أهل أنطاكية ، فاستشهد بعد بلاء حسن (٨١ ـ ظ) وموقف مشهود ، فغم عبد الملك مصابه ، وأغزى الروم جيشا عظيما طلبا بثأره.