الذاتية إذ ليس المراد بالذاتية إلا ما يحق عند عدم عروض مناسب للمقام ، ولهذا قيل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(١) قدم اقرأ ؛ لأن الأهم أى : الأنسب لمقام القراءة اللفظ الدال عليها ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن الحاكم بالترجيح فى التقديم فى باب البلاغة قصد البليغ ، وهو تابع لما يناسب المقام ، وقد يزيل الذاتيات بذلك القصد ، ألا يرى أن الركن الأعظم فى الإسناد وهو المبتدأ قد يزيله قصد البليغ أن يفيد بحذفه إيهام أن ذكره كالعبث لوجود ما يدل عليه فى المقام.
(على ما أنعم) أى : على إنعامه ، وهو متعلق بأحمد مقدرا ، وإنما لم نجعله متعلقا بالحمد المصرح به لئلا يلزم الإخبار عن الموصول قبل كمال الصلة وجعلنا ما مصدرية لئلا يحوج جعلها اسما إلى تقدير الضمير ؛ ولأن الحمد على الإنعام الذى هو وصف المحمود أحق من الحمد على المنعم به إذ لا يصح على المنعم به إلا باعتبار الإنعام ، وحذف مفعول أنعم ؛ ليوهم السامع قصور العبارة عن الإحاطة به ، وقلنا ليوهم السامع ، ولم نقل لتحقق قصور العبارة ، ولو كان ذلك هو الواقع عند قصد الإحاطة تفصيلا ؛ لأنه لا يتحقق القصور لصحة الإحاطة بالإجمال كقولنا : الحمد لله على كل نعمة أو لأن الذى ينبغى عند قصد شكر نعم المحمود تفصيلها ليتبين جمال المشكور وكرمه ، عند ذلك يتعذر الاستيفاء فيتوهم اختصاصها بشيء دون شيء ، فحذف نفيا لذلك التوهم الواقع بذلك التفصيل ، ثم لما أفاد العموم بالحذف لما ذكر خصص نوعين بالذكر لأهميتهما للحاجة إليهما فى بقاء الإنسان فى عافيته وسلامته ، وهما نعمة البيان ونعمة تحقق العدل أما نعمة البيان ، وهو المنطق الفصيح المعرب عما فى الضمير ، فجلالتها المفيدة لأهمية تخصيصها بالذكر أن الإنسان فى غاية الافتقار عادة فى مصالحه إلى مخالطة أبناء جنسه ؛ ليستعين بهم على التوصل إلى مآربه الضرورية وغيرها ، وعند الاستعانة يحتاج كل منهم إلى أن يطلع صاحبه عما فى ضميره ، ليعينه فيه ، والتوصل بالإشارة مع ما فيه من مشقة البطء فى التبليغ لا يعم غير المبصر ، والتوصل بالكتابة فيه مشقة عظيمة ، فكان التوصل بالعبارة غاية النعمة ؛ لعمومها وسهولتها لكونها كيفيات
__________________
(١) العلق : ١.