وبينه لو كان قال : إن المنبر مشى إليك ، ميزة ظاهرة ، وهذا أمر لا يستمر في مثله شبهة ، فيحتاج إلى الإسهاب في إيضاحه.
وأما قوله : إنه جعل للزمان فؤادا ملأته هذه الهمة على مقابلة اللفظ باللفظ لما افتتح البيت بقوله :
تجمعت في فؤاده همم (١)
فليس بمعتمد ، لأن مقابلة اللفظ باللفظ على ما أراده مجاز ، والمجاز لا يقاس عليه ، وليس يحسن بنا أن نقابل اللفظ باللفظ في كل موضع من الكلام قياسا على مقابلة اللفظ في قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] كما لا يجوز منا أن نحذف المضاف ونقيم المضاف إليه مقامه أبدا اتباعا لقوله عزّ اسمه : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] والمراد : أهل القرية ، حتى نقول : ضربت زيدا ، ونريد غلام زيد ، والعلة في الجميع واحدة ، وهو أن المجاز لا يقاس عليه وإنما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه في موضع دون موضع ، بحسب ما يتفق من فهم المقصود وزوال اللبس والإشكال ، وكذلك نقابل بعض الكلام ببعض ، بحيث لا يعرض فيه فساد في المعنى ولا خلل في العبارة ، فاذا اعترضنا في المقابلة مثل هذه الاستعارة لم نجزها ، كما إذا تطرق إلينا في حذف المضاف وجود اللبس لم نركن إليه ولا نعرج عليه.
وأما قوله : إنه أراد أن يقول : إحداها تشغل الزمان وأهله ، فترخص بأن جعل له فؤادا ، وأعانه على ذلك أن الهمة لا تحل إلا الفؤاد ، وسهّله ما تقدم من تسامح الشعراء في نعوت الدهر وتوسّعهم في استعارة الأوصاب له ، فليس هذا القول بحجة ؛ لأن الشعراء إذا تسامحوا وأبعدوا في الاستعارة نسبوا إلى ما نسب إليه أبو الطيب من الخطأ والعدول عن الوجه في الكلام ، وليس يعذر لهم كما لا يحتج لهم به ، وكلهم في هذا الباب شرع واحد.
__________________
(١) سبق تخريجه ص ١٢١.