الأول لما كثر الإسلام واتصلت الدعوة وانتشرت ، حضر أكثرهم (١) وسكنوا الأرياف وفارقوا البدو ، وخالطهم الباقي ، فامتزج كلامهم بمن جاوروا من الأنباط وعاشروا من الأعاجم ، وعدم منهم الطبع السليم الذي كانوا عليه قبل هذه المخالطة ، فهم الآن لا يحتج بكلامهم لهذه العلة ، لا لأن القدم والحدوث سببان في الصواب والخطأ ، ولهذا كان الأصمعي ينكر أن يقال في لغة العرب : مالح ، فلما أنشد في ذلك شعر ذي الرمة قال : إن ذا الرمة قد بات في حوانيت البقالين بالبصرة زمانا ، فأراد بذلك أنّه بمخالطتهم سمعهم يقولون : مالح : فقاله ، فلم يجز أن يحتج بكلامه لهذا السبب. ولو فرضنا اليوم أنّ في بعض الصحاري النائية عن العمارة قوما على عادة المتقدمين في البدو وترك الإلمام بأهل المدر ، متمسكين بطبعهم وجارين على سجيتهم ، كان على هذا الفرض قولهم حجة واتباعهم واجبا ، ولهذه العلة تختلف العرب في كلامهم بحسب تباينهم في المخالطة ، فتجد اليوم من بعد منهم عن الحضر أكثر من غيره إلى الصواب أميل ، ومن جانبه أقرب.
وأما قوله : إن أبا الطيب يريد أن مباشرة مفرقها شرف ، ومجاورته زين ومفخرة ، وأن التحاسد يقع فيه والحسرة تعظم عليه ، فلو كان الطيب ذا قلب لسر ، كما لو كانت البيض ذوات قلوب لأسفت ، فلم يزد على أن فسر مراد أبي الطيّب بقوله : إن الطيب يسرّ بمفرق هذه المرأة والبيض تتحسّر ، والمعنى ظاهر فيه لا خفاء به ، وقوله : إن مراده لو كان الطيب ذا قلب لسرّ ، ليس بعذر في قوله : قلوب الطيب ؛ لأن بين قوله : لو كان للطيب قلب ، وبين قوله : للطيب قلب ، فرقا ظاهرا لا يخفى على أحد ، لأن أحدهما قد جعله واجبا والآخر ممتنعا ليس فيه أكثر من الفرض الذي يعلم من فحوى اللفظ أنه لم يقع ، ليس يخفى على متأمل أن بين قول البحتري :
فلو أن مشتاقا تكلّف غير ما |
|
في طبعه لمشى إليه المنبر (٢) |
__________________
(١) حضر : سكن الحضر أي : المدن.
(٢) هذا البيت من قصيدة له في مدح المتوكل. وفي «ديوانه» (١ / ٢٠) : في وسعه ، بدل في طبعه.
ولسعى إليك ، بدل لمشى إليه.