ودليل له آخر ، وهو امتناعهم من العطف على ضمير الفاعل نحو : قمت وزيد ، وقعدت وبكر ، فاستقباحهم لذلك حتى يؤكدوه فيقوّوه ويلحقوه بالأسماء في نحو : قمت أنا وزيد ، وقعدت أنا وجعفر ـ دلالة على أنهم قد نزّلوا التاء منزلة بعض الفعل ، فكما لا يحسن أن تعطف الاسم على بعض الفعل ، كذلك لم يستحسنوا عطفه على التاء من قمت ، لضعف التاء ، وامتزاجها بالفعل ، وكونها كجزء منه.
ودليل له ثالث ، وهو امتناعهم من جواز تقدم الفاعل على الفعل ، وإن كانوا يجيزون تقدم خبر المبتدأ عليه ، فكما لا يقدّمون الدال على الزاي من زيد ، كذلك امتنعوا من تقديم الفاعل على الفعل.
ودليل له رابع ، وهو من أغربها وألطفها ، وهو قولهم في التثنية : يقومان ، فالنون علامة الرفع بمنزلة ضمة الميم من يقوم في الواحد ، وعلامة الرفع ينبغي أن تلحق المرفوع مع انقضاء أجزائه بلا فرق ولا تراخ ، فمجيء النون في يقومان بعد الألف التي هي ضمير الفاعلين ، يدل من مذهبهم على أنهم قد أحلّوا ضمير الفاعل محلّ حرف الإعراب من الفعل ، لأنهم أولوا ضميره علامة الرفع ، وهي النون في يقومان ويقعدان ، كما أولوا حرف الإعراب في الواحد ، وهو الميم من يقوم ، علم الرفع ، وهو الضّمة في يقوم ويقعد وباشروه به ، ففي هذا أقوى دليل على شدة امتزاج الفعل بالفاعل ، وكونه معه كبعض أجزائه منه.
وكذلك يقومون وتقومين.
وأما الخمسة الأدلة التي رأيتها أنا في شدة اتصال الفعل بالفاعل ، فأولها أني رأيتهم قد أجروا الفعل والفاعل في قولهم حبذا مجرى الجزء الواحد من ثلاث جهات : إحداها أن الفعل الذي هو «حبّ» ، والفاعل الذي هو «ذا» قد قرن أحدهما بصاحبه ، ومع ذلك فلم يستقلا ، ولم يفيدا شيئا حتى تربط بهما اسما بعدهما ، فتقول حبذا زيد وحبذا محمد ، فلو لا أنهما قد تنزّلا منزلة الجزء الواحد ، لاستقلا بأنفسهما ، كما يجب في الفعل والفاعل ، نحو قام زيد وقعد محمد ، فكما أنك لو قلت : زيد ، وسكتّ ، أو قلت قعد ، وسكتّ ، ولم تذكر بعد ذلك اسما ، لم يتمّ الكلام ، ولم يستقلّ. فكذلك أيضا جرى حبّذا ، وإن كان فعلا وفاعلا في حاجته إلى ما بعده حاجة الجزء المفرد إلى ما بعده ، مجرى الجزء الواحد.