عن الشرك لينفتح عليه أبواب الأنوار والمكاشفات. ثم قال للمنيبين (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) قال جار الله: قوله (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ) ثلاثة أخبار لقوله هو مترتبة على الأول وهو قوله (الَّذِي يُرِيكُمْ) أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا أوسطها معرفة. ثم إن الرفيع إما أن يكون بمعنى الرافع أو بمعنى المرتفع ، وعلى الأول فإما أن يراد رافع درجات الخلق في العلم والأخلاق الفاضلة كما قال (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة: ١١] وكذا في الرزق والأجل بل جعل للملائكة مقامات معينة وللأجسام البسيطة العلوية والسفلية درجات معينة كما يشهد به علم الهيئة ، وقد أشرنا إلى ذلك في أثناء هذا الكتاب. أو يراد رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة. وأما على الثاني فلا ريب أنه سبحانه أشرف الموجودات وأجلها رتبة من جهة استغنائه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه ، وافتقار كل ما سواه إليه في الوجود وفي توابع الوجود.
واعلم أن كمال كبرياء الله لا يصل إليه عقول البشر فالطريق في تعريفه أن يؤيد المعقول بنحو من المحسوس ، فلهذا عقب الله تعالى هذه الصفة بصفتين أخريين ، وذلك أن ما سوى الله إما جسمانيات وإما روحانيات. أما الجسمانيات فأعظمها العرش فأشار بقوله (ذُو الْعَرْشِ) إلى استيلائه على كلية عالم الأجسام ، وأما الروحانيات فأشار إلى كونها تحت تسخيره بقوله (يُلْقِي الرُّوحَ) أي الوحي (مِنْ أَمْرِهِ) أي من عالم أمره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقد مر نظيره في الآية في أول سورة النحل. وقيل: من أمره حال ثم بين الغرض من الإلقاء بقوله (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) ووجه التسمية ظاهر لتلاقي الأجساد والأرواح فيه ، أو لتلاقي أهل السماء والأرض كما قال عز من قائل (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان: ٢٥] ولأن كل واحد يلاقي جزاء عمله. وقال ميمون بن مهران: يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم ، فربما ظلم رجل رجلا وانفصل عنه ولم يمكن التلاقي أو استضعف المظلوم ففي يوم القيامة لا بد أن يتلاقيا. وقوله (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) بدل من الأول. ومعنى البروز ما مر في آخر سورة إبراهيم في قوله (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [الآية: ٤٨] وقوله (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) تأكيد لذلك وهذا ، وإن كان عاما في جميع الأحوال وشاملا للدنيا والآخرة إلا أنه خصص بالآخرة لأنهم في الدنيا كانوا يظنون أن بعض الأعمال تخفى على الله عند الاستتار بالحجب كما قال (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) فهو نظير قوله (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: ٣] ثم أكد تفرّده في ذلك اليوم بالحكم والقضاء بقوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ولا ريب