ثم أرشد إلى مجامع الأخلاق الحسنة بقوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فإن من عبد الله وأشرك به شيئا آخر فقد حبط عمله وضل سعيه (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) تقديره وأحسنوا بهما إحسانا. يقال : أحسن بفلان وإلى فلان. (وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) وقد مر تفاسيرها في البقرة. قال أبوبكر الرازي : إن اضطر إلى قتل أبيه بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله جاز له أن يقتله (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) الذي قرب جواره (وَالْجارِ الْجُنُبِ) الذي بعد جواره. عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ، ألا وإن الجوار أربعون دارا» (١). وعن الزهري أنه أراد أربعين من كل جانب. وقيل : الجار ذي القربى الجار القريب النسب ، والجار الجنب الأجنبي. والتركيب يدل على البعد ، ومنه الجانبان للناحيتين ، والجنبان لبعد كل منهما عن الآخر ، ومنه الجنابة لبعده عن الطهارة وعن حضور الجماعة والمسجد ما لم يغتسل. ومن قرأ (الْجُنُبِ) فمعناه المجنوب مثل «خلق» بمعنى مخلوق ، أو المراد ذي الجنب فحذف المضاف (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) وهو الذي حصل بجنبك إما رفيقا في سفر ، وإما جارا ملاصقا ، وإما شريكا في تعلم أو حرفة ، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس ، أو في مسجد أو غير ذلك من أدنى صحبة اتفقت بينك وبينه ، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل : الصاحب بالجنب المرأة فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر الذي انقطع عن بلده ، أو الضيف (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عن علي بن أبي طالب أنه كان آخر كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وذكر اليمين تأكيد كما يقال : مشيت برجلي. والإحسان إليهم أن لا يكلفهم فوق طاقتهم ولا يؤذيهم بالكلام الخشن ، بل يعاشرهم معاشرة جميلة ويعطيهم من الطعام والكسوة ما يليق بحالهم في كل وقت. وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء وهو الكسب بفروجهن ، ويضعون على العبيد الخراج الثقيل. وقيل : كل حيوان فهو مملوك. والإحسان إلى كل نوع بما يليق بحاله طاعة عظيمة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) تياها جهولا يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه وممالكيه ، وعن الالتفات إلى حالهم والتفقد لهم والتحفي بهم ، ويأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء. وأصله من الخيلاء الكبر ، والفخور المتطاول الذي يعد مناقبه. وعن ابن عباس هو الذي يفخر على عباد الله تعالى بما أعطاه من أنواع نعمه ، ولعل هذا يجوز على سبيل التحدث بالنعم فقط. (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) البخل في اللغة منع الإحسان ، وفي الشرع منع
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ٢٩. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٧٣. الترمذي في كتاب القيامة باب ٦٠. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٧). بدون لفظ «ألا وإن الجوار أربعون دارا».