النبوّة وإن جاء بجميع الآيات لا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه الآية
المعينة ، وحينئذ لا تكون سائر المعجزات دالة على الصدق ، وإذا جاز الطعن فيها جاز
في هذه. وإما أن يكون فيها أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة أية كانت. وحينئذ يكون
طلب هذا المعجز المعين عبثا فلهذا نسبهم الله تعالى إلى الجحود والعناد فقال : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) أي بمدلوله ومؤدّاه (فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنما الإيمان يجب عند الإتيان بالقربان. وإنما ذكر مجيء
الرسل بالبينات ولم يقتصر على مجيء القربان ليتم الإلزام. وذلك أن القوم يحتمل أن
يقولوا إن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها ، والشرط يلزم من عدمه عدم
المشروط لكن لا يلزم من وجوده وجود المشروط. فلو اكتفى بذكر القربان لم يتم
الإلزام ، وحيث أضاف إليه البينات ثبت أنهم أتوا بالموجب وبالشرط جميعا ، فكان
الإقرار بالنبوة واجبا. ثم سلى رسوله بقوله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) في أصل الشريعة والنبوة أو في قولك إن الأنبياء
الأقدمين جاؤهم بالبينات وبالقربان فقتلوهم. (فَقَدْ كُذِّبَ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) وأي رسل والمصيبة إذا عمت طابت (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) وهي الحجج الواضحات والمعجزات الباهرات. والزبر هي
الصحف جمع زبور بمعنى مزبور أي مكتوب. وقال الزجاج : الزبور كل كتاب ذي حكمة فيشبه
أن يكون من الزبر بمعنى الزجر عن خلاف الحق وبه سمي زبور داود لما فيه من الزواجر
والمواعظ والكتاب المنير الموضح أو الواضح المستنير. ويعلم من عطف الزبور والكتاب
على البينات ، أن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم ، وأنها لم تكن معجزة لهم والإعجاز
من خواص القرآن. وعطف الكتاب المنير على الزبر لأن الكتاب بوصفه بالإثارة أو
الاستنارة أشرف من مطلق الزبر فخص بعد العموم لشرفه مثل (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] وقيل : المراد بالزبر الصحف ، وبالكتاب المنير التوراة
والإنجيل والزبور.
ثم أكد التسلية
بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ) لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الغموم والأشجان
الدنيوية ، وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارا يتميز فيها المحسن عن المسيء ،
ويرى كل منهما جزاء عمله. والمراد بكل نفس ذائقة الموت كل ذات. فالقضية لا يمكن
إجراؤها على عمومها لاستثناء الله تعالى منها (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] وكذا كل الجمادات لأن لها ذوات. ولقوله : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] ولأنه لا موت ولا لأهل الجنة ولأهل النار. فالمراد المكلفون
الحاضرون في دار التكليف ، والملائكة عند من يجوّز الموت عليهم. روي عن ابن عباس :
لما نزل قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) [الرحمن :