كما قال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) و «ما» مزيدة للتوكيد. أما الحكم بزيادتها فللنظر إلى أصل المعنى. وعمل حرف الجر فيما بعدها فكأنه قال : فبرحمة. وأما إفادتها التوكيد فلاستحالة زيادة حرف لا فائدة فيه أصلا. وجوز بعضهم أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير : فبأي رحمة. وإنما كان لينه ورفقه رحمة من الله لأن الدواعي والقصود والإرادات كلها بفعل الله تعالى. فلا رحمة بالحقيقة الإله ، ولا رحيم إلا هو ، لأن كل رحيم سواه فإنه يستفيد برحمته عوضا كالخوف من العقاب ، أو الطمع في الثواب ، أو الثناء ، أو يحمله على ذلك رقة طبع أو حمية أو عصبية إلى غير ذلك من الأغراض. وأيضا رحمة المخلوق على غيره لن تتم ولن ينتفع بها المرحوم إلا بعد مواتاة سائر الأسباب السماوية من سلامة الأعضاء وغيرها. فلا رحمة إلا بإعانة الله وتوفيقه بربطه على جأش الراحم وضبطه حال المرحوم. ثم بيّن أن الحكمة في لين جانبه ما هي فقال : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) سيىء الخلق وأصله فظظ كحذر. فظظت يا رجل بالكسر فظاظة (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسيه بحيث لا يتأثر عن شيء يوجب الرقة والعطف (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد والتركيب يدل على التفريق ومنه «فض الختام». ويقال : لا يفضض الله فاك أي أسنانك. ومنهم من حمل الآية على واقعة أحد فقال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) تشافههم بالملامة على ذلك (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم. وهاهنا دقيقة هي أن اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ولهذا أمر بالغلظة في قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم : ٩] وقال في إقامة حد الزنا : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النور : ٢] ومثله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] فيعلم من المدح على اللين في موضع ومن الأمر بالغلظة في موضع آخر أن الفضيلة في الوسط وهو استعمال كل شيء في موضعه ، وأن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان ، ومنه المثل «لا تكن حلوا فتسترط ولا مرا فتعقى». واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة القضاء والقدر. وذلك أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله ، وهي عند المعتزلة عامة في حق جميع المكلفين. فكل ما فعله مع محمد صلىاللهعليهوسلم من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد فقد فعل مثل ذلك مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب. فلطف الله ورحمته مشترك بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء ، فلا يكون اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفادا من رحمة الله ،