لأن بلوغ الأنبياء عند كهولتهم (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) يعني صلاحية قبول الفيض بلا واسطة كما هو حال جميع الأنبياء عليهمالسلام. (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الروح الإنساني الذي هو خليفة الله في أرضه قابل لجميع أنوار الصفات خلافة عنه حتى القدرة على الخلق والإحياء والإبراء والإنباء وغير ذلك من الآيات التي هي من نتائج القدرة ، لكنه لتعلقه بالجسد الكائن من العناصر ولاحتجابه بظلمات شهوات الأبوين امتنع عن قبول أنوار الصفات إلى أن يخرجه مدد العناية بطريق الهداية ، وقوة استعداد الروحية والجسمية من تلك الظلمات فيظهر على النبي صلىاللهعليهوسلم آيات المعجزات وعلى الولي أمارات الكرامات. ولما كان روح عيسى عليهالسلام وذرّة طينته المستخرجة من ظهر آدم محتبسة عند الله حتى ألقاها إلى مريم من غير شائبة ظلمات شهوة الأبوين ولهذا سمي روح الله ، كان قابل أنوار الصفات في بدوّ أمره يكلم الناس في المهد ويكتب ويقرأ التوراة والإنجيل غير من تعلم ، ويحيي ويبرىء إلى غير ذلك من الآيات. (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) فيه إشارة إلى أن عيسى الروح ، لما أحس من النفس وصفاتها الكفر (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ) وهم القلب وصفاته (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ) أي بوحدانيته والتبري عن غيره (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) منقادون لأحكامه ، راضون بقضائه ، صابرون على بلائه (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من الحكم والأسرار واللطائف والحقائق (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) الوارد من نفحات ألطافك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المشاهدين لأنوار جلالك (وَمَكَرُوا) أي النفس وصفاتها والشياطين وأتباعها في هلاك عيسى الروح (وَمَكَرَ اللهُ) بتجلي صفات قهره في فناء النفس وصفاتها (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) في قهر النفس الأمارة بالسوء وقمع صفاتها وقلع شهواتها (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) عن الصفات النفسانية والسمات الحيوانية (وَرافِعُكَ إِلَيَ) بجذبات العناية كما أسرى بعبده إلى قاب قوسين أو أدنى. ومن خواص الجذبة الربوبية خمود الصفات البشرية (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) باللطف أو القهر بالاختيار على قدم السلوك ، أو بالاضطرار عند نزع الروح. (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بحجاب الغفلة والاشتغال بغير الله ، (وَالْآخِرَةِ) بالقطيعة والبعد عن الله (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بانقضاء العمر في طلب غير الله تعالى. ثم قال له كن فيكون. هذه السنة في تكوين الأرواح والملكوت لا الأجساد والملك ، ولكنه أجراها في تكوين آدم من تراب بلا أب وأم ، وخلق حوّاء منه بلا أم ، وخلق عيسى ابن مريم بلا أب خرقا للعادة ودلالة على اختياره ورغما بأنف من قال بالإيجاب في الإيجاد (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) نهي الكينونة قاله في الأزل فما كان من الممترين ولا يكون إلى الأبد.