الباب الأعظم من أبواب مكّة ، فسمعت مناديا ينادي : هنيئا لك يا بطحاء مكة ، اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والجمال ، قالت : ثم وضعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأقضي حاجة وأصلح ثيابي ، فسمعت هدّة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معاشر الناس أين الصبي؟ فقالوا : أي الصبيان؟
قلت : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، الذي نضّر الله به وجهي ، وأغنى عيلتي ، ربّيته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي أتيت به لأردّه ، وأخرج هذا من أمانتي ، اختلس من بين يدي قبل أن يمس قدمه الأرض ، واللات والعزى لئن لم أره لأرمينّ بنفسي من شاهق الجبل ، فلأقطعنّ إربا إربا.
قالوا : ما رأينا شيئا ، فلمّا آيسوني وضعت يدي على أم رأسي ، وقلت : وا محمداه وا ولداه ، فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي ، وضجّ الناس معي بالبكاء حرقة لي ، فإذا أنا بشيخ كالفاني يتوكأ على عصا ، قال : ما لك أيتها السعدية؟
قلت : فقدت ابني محمدا ، فقال : لا تبكي أنا أدلّك على من يعلم علمه ، وإن شاء أن يردّه فعل ، قلت : فدتك نفسي ، ومن هو؟ قال : الصنم الأعظم هبل.
قالت : فدخل وأنا أنظر ، فطاف بهبل وقبّل رأسه وناداه : يا سيداه ، لم تزل منتك على قريش قديمة ، وهذه السعدية تزعم أن ابنا لها قد ضلّ ، فردّه إن شئت ، وأخرج هذه الوحشة عن بطحاء مكة ، فإنها تزعم أن ابنها محمدا قد ضلّ ، قال : فانكب هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ، وقالت : إليك عنّا أيها الشيخ. إنما هلاكنا على يدي محمد.
قالت : فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكا ، ولركبته ارتعادا ، وقد ألقى عكازته من يده وهو يقول : يا حليمة إن لابنك ربا لا يضيّعه فاطلبيه على مهل ، قالت : فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي ، فقصدته فلمّا نظر إليّ ، قال : أسعد نزل بك أم نحوس؟ ، قلت : بل النحس الأكبر ، ففهمها منّي ، وقال : لعلّ ابنك ضلّ منك ، قالت : قلت : نعم فظنّ أن بعض قريش قد اغتاله ، فسلّ عبد المطلب سيفه لا يثبت له أحد من شدة غضبه ، ونادى بأعلى صوته : يا آل غالب ، يا آل غالب ، وكانت دعوتهم في الجاهلية فأجابته قريش بأجمعها ، وقالوا : ما قصتك؟ ، قال : فقد ابني محمد ، قالت قريش : اركب نركب معك ، فإن تسنّمت جبلا تسنماه معك ، وان خضت بحرا خضناه معك ، فركب وركبت قريش معه فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها ، فلمّا أن لم ير شيئا ترك الناس واتشح وارتدى بآخر ، وأقبل الى البيت الحرام ، فطاف اسبوعا ثم أنشأ يقول :
يا ربّ ردّ راكبي محمدا |
|
ردّه ربي واتخذ عندي يدا |
يا ربّ إن محمد لم يوجدا |
|
مجمع قومي كلّهم مبدّدا |
فسمعنا مناديا ينادي من الهواء : معاشر الناس لا تضجوا ، فان لمحمد ربّا لا يخذله ولا