فجزّت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها : أين قرنك فأخبرته بذلك فحينئذ قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ).
وقال قوم : إنّما قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يعيى (١) عن الذكر والفكر.
وقال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم في أيّوب خيرا ما ابتلاه بما نرى : قال : فلم يسمع أيوب شيئا كان عليه أشدّ من هذه الكلمة ، وما جزع من شيء أصابه جزعه من تلك الكلمة ، فعند ذلك قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، ثم قال : اللهمّ إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدّقني فصدّق ، وهما يسمعان ، ثمّ قال : اللهمّ إن كنت تعلم أنّي لم أتّخذ قميصين قطّ وأنا أعلم مكانا عار فصدقني فصدّق وهما يسمعان فخرّ ساجدا.
وقيل معناه : مسّني الضر من شماتة الأعداء ، يدلّ عليه ما روي أنّه قيل له بعد ما عوفي : ما كان أشدّ عليك في بلائك؟ قال : شماتة الأعداء.
وقيل : إنّما قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فرفعها وردّها إلى موضعها وقال : كلي فقد جعلني الله طعامك ، فعضّته عضّة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عضّ الديدان.
وسمعت أبا عبد الله بن محمد بن جعفر الأبيوردي يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن عبّاد البغدادي يقول : سئل أبو القاسم جنيد عن هذه الآية فقال : عرّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال.
وسمعت استأذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلسا غاصّا بالفقهاء والأدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية ـ بعد إجماعهم على أنّ قول أيوب (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) شكاية وقد قال الله سبحانه (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) (٢) فقلت : ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء ، بيانه قوله سبحانه (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) والإجابة تعقب الدعاء لا الاشتكاء ، فاستحسنوه وارتضوه.
(فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) واختلفوا في كيفية ذلك فقال قوم : إنما آتى الله سبحانه أيّوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا ، فأما الذين هلكوا فإنّهم لم يردّوا عليه ، وإنّما وعد الله أيّوب أن يؤتيه إيّاهم في الآخرة.
وروى عبد الله بن إدريس عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن هذه الآية فقال : قيل له : إنّ أهلك لك في الآخرة ، فإن شئت عجّلناهم لك في الدنيا ،
__________________
(١) في المخطوط : يبقى.
(٢) ص : ٤٤.