فلَثَمْتُ فَاها آخِذاً بقُرونِها |
|
شرْبَ الشَّرِيبِ ببَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ (١) |
وقيل في قوله تعالى : (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) : ذهَبَ بالباءِ إلى المَعْنى ، لأنَّ يَرْوَى بها عِبادُ الله ، وعليه حَمَلَ الشافِعِيُّ قولَه تعالى : وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ (٢) ، أَي ببعضِ رُؤُوسِكُم. وقال ابنُ جنِّي : وأمَّا ما يَحْكِيه أَصْحابُ الشَّافِعي مِن أنَّ الباءَ للتَّبْعيضِ فشيءٌ لا يَعْرفُه أَصْحابُنا ، ولا وَرَدَ به ثبتٌ.
* قُلْتُ : وهكذا نسَبَ هذا القَوْلَ للشَّافِعِي ابنُ هِشامٍ في شرْحِ قَصِيدَةِ كَعْبِ. وقالَ شيْخُ مشايخِ مشايِخنا عبْدُ القادِرِ بنُ عُمَر البَغْدَادِي في حاشِيَتِه عليه الذي حَقَّقه السَّيوطي : إنَّ الباءَ في الآيةِ عنْدَ الشَّافِعِي للإلْصاقِ ، وأَنْكَر أنْ تكونَ عنْدَه للتَّبْعيضِ ، وقالَ هي للإلْصاقِ ، أَي أَلْصقُوا المَسْحَ برُؤُوسِكُم ، وهو يصدقُ ببعضِ شعرةٍ وبه تَمسَّكَ الشافِعِيُّ ونقلَ عِبارَةَ الأمّ وقال في آخرِها : وليسَ فيه أنَّ الباءَ للتَّبْعيضِ كما ظنَّ كثيرٌ مِن الناسِ ، قالَ البَغْدَادِي : ولم يَنْسِبْ ابنُ هشام هذا القَوْلَ في المُغْني إلى الشافِعِي وإنَّما قالَ فيه : ومنه ، أَي مِن التَّبْعيضِ (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، والظاهِرُ أنَّ الباءَ للإلْصاقِ أَو للاسْتِعانَةِ ، في الكَلامِ ، حذْفاً وقَلْباً ، فإنْ مَسَحَ يَتَعَدَّى إلى المُزَالِ عنه بنَفْسِه وإلى المُزِيلِ بالباءِ ، والأصْلُ امْسَحُوا رُؤوسِكُم بالماءِ ، فقلبَ مَعْمول مَسَحَ ، انتَهَى قالَ البَغْدادِي. ومَعْنى الإلْصاقِ المَسْح بالرأْس وهذا صادِقٌ على جَمِيعِ الرأْسِ وعلى بعضِهِ ، فمَنْ أَوْجَبَ الاسْتِيعابَ كمالِكٍ أَخَذَ بالاحْتِياطِ ، وأَخَذَ أَبو حنيفَةَ بالبَيانِ وهو ما رُوِي أَنّه مَسَحَ ناصِيَتَه ، وقُدِّرَتِ النَاصِيَةُ برُبْعِ الرأْسِ.
وللقَسَم ، وهي الأصْلُ في حُروفِ القَسَم وأَعَمّ اسْتِعْمالاً مِن الواوِ والتاءِ ، لأنَّ الباءَ تُسْتَعْمل مع الفِعْلِ وحذْفِه ، ومع السُّؤالِ وغيرِه ، ومع المُظْهَرِ والمُضْمَرِ بخِلافِ الواوِ والتاءِ ؛ قالَهُ محمدُ بنُ عبدِ الرحيمِ الميلاني في شرْح المُغْني للجاربردي.
وفي شرْحِ الأُنْموذَجِ للزَّمَخْشري : الأصْل في القَسَم الباءُ ، والواوُ تُبْدَلُ منها عنْدَ حَذْفِ الفِعْل ، فقوَلُنا والله في المَعْنى أَقْسَمْتُ بالله ، والتاءُ تُبْدَلُ مِن الواوِ في تالله خاصَّةً ، والباءُ لأصالَتِها تَدْخَلُ على المُظْهَرِ والمُضْمَر نحو : بالله وبكَ لأَفْعَلَنَّ كذا ؛ والواو لا تَدْخُلُ إلَّا على المُظْهَرِ لنُقْصانِها عن الباءِ فلا يقالُ : وبكَ لأفْعَلَنَّ كذا ، والتاءُ لا تَدْخُل مِن المُظْهَرِ إلَّا على لَفْظةِ الله لنُقْصانِها عن الواوِ ، انتَهَى.
* قُلْت : وشاهِدُ المُضْمَر قولُ غوية بن سلمى :
ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتِمالي |
|
لتَحْزُنَني فَلا يَكُ ما أُبالي |
وقد أَلْغز فيها الحرِيرِي في المَقامَةِ الرَّابِعَة والعِشْرِين فقالَ : وما العامِلُ الذي نائِبُه أَرْحَبُ منه وكراً وأَعْظَمُ مَكْراً وأَكْثَر لله تعالى ذِكْراً ، قالَ في شرْحِه : هو باءُ القَسَمِ ، وهي الأصْلُ بدَلالَةِ اسْتِعْمالِها مع ظُهورِ فِعْلِ القَسَمِ في قولِكَ : أُقْسِمُ بالله ، ولدُخولِها أَيْضاً على المُضْمَر كقولِكَ : بكَ لأَفْعَلَنَّ ، ثم أُبْدِلَتِ الواوُ منها في القَسَم لأنَّهما جَمِيعاً مِن حُروفِ الشَّفَةِ ثم لتَناسُبِ مَعْنَيهما لأنَّ الواوَ تُفيدُ الجَمْع والباءُ تُفِيدُ الإلْصاقَ وكِلاهُما مُتَّفِقٌ والمَعْنيانِ مُتَقارِبانِ ، ثم صارَتِ الواوُ المُبْدلَة منها أَدْوَرُ في الكَلام وأَعْلَق بالأقسامِ ولهذا أَلْغز بأَنَّها أَكْثَرُ لله ذِكْراً ، ثم إنَّ الواوَ أَكْثَرُ مَوْطِناً ، لأنَّ الباءَ لا تَدْخلُ إلَّا على الاسْمِ ولا تَعْملُ غَيْر الجَرِّ ، والواوُ تَدْخُلُ على الاسْمِ والفِعْلِ والحَرْفِ وتجرُّ تارَةً بالقَسَمِ وتارَةً بإضْمارِ رُبَّ وتَنْتَظِم أَيْضاً مع نَواصِبِ الفِعْل وأَدوَاتِ العَطْفِ ، فلهذا وَصَفَها برحبِ الوكر وعظم المَكْر.
وللغَايَةِ ، بمعْنَى إلى ، نحو قوله تعالى : (وَقَدْ) أَحْسَنَ بِي (٣) ، أَي أَحْسَنَ إليَّ.
وللتَّوْكِيدِ : وهي الزائِدَةُ وتكونُ زِيادَةً واجِبَةً : كأَحْسِنْ بزَيْدٍ ، أَي أَحْسَنَ زَيْدٌ ؛ كذا في النسخِ والصَّوابُ حَسُنَ
__________________
(١) عجزه من شواهد مغني اللبيب ، ونسبه محققه بحاشيته لعدد من الشعراء منهم جميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة وعبيد بن أوس.
(٢) سورة المائدة ، الآية ٦.
(٣) سورة يوسف ، الآية ١٠٠.