قَبْلَها ولذلكَ لا بدَّ أَنْ يَتَقدَّمَها كَلامٌ مُناقِضٌ لمَا بعدَها ، أَو ضِدٌّ له ، تقولُ : ما جاءَني زيدٌ لكِنَّ عَمْراً قد جاءَ ، وما تكلَّمَ زيدٌ لكنَّ عَمْراً قد تكلَّمَ.
وقالَ الجاربردي : ومعْنَى الاسْتِدراكِ رَفْع وَهْمٍ عن كَلامٍ سابقٍ.
وقالَ ابنُ سِيدَه : لكِنَّ حَرْفٌ تُثبتُ به بعْدَ النَّفْي.
وقالَ الكِسائيّ : حَرْفان مِنَ الاسْتِثْناءِ لا يَقَعَان أَكْثَر ما يَقَعان إلَّا مع الجَحْدِ وهُما بَلْ ولكن ، والعَرَبُ تَجْعلُهما مِثْلَ واوِ النَّسَقِ.
وقيلَ : تَرِدُ تارَةً للاسْتِدراكِ ، وتارَةً للتوكيدِ.
وقيلَ : للتَّوكيدِ دائِماً مِثْلَ إنَّ ، ويَصْحَبُ التوكيدَ معْنَى الاسْتِدراكِ.
وقالَ الفرَّاءُ : إذا أَدْخَلوا عليها الواوُ آثَرُوا تَشْديدَها لأنَّها رجوعٌ عمَّا أَصابَ أَوَّل الكَلامِ ، فشُبِّهَتْ ببَلْ إذا كانتْ رجوعاً مِثْلها ، أَلا تَرَى أَنَّك تقولُ لم يَقُمْ أَخُوكَ بَلْ أَبُوكَ ، ثم تقولُ لم يَقُمْ أَخُوك لكنْ أَبوك فتَراهُما في معْنًى واحِدٍ ، والواوُ لا تَصْلحُ في بَلْ ، فإذا قالوا ولكن فأَدْخَلوا الواوَ تَبَاعَدَتْ عن بَلْ إذ لم تَصْلح في بَلْ ، فإذا قالوا ولكن فأَدْخَلوا الواوَ تَباعَدَتْ عن بَلْ إذ لم تَصْلح في بَلْ الواوُ ، فآثرُوا فيها تَشْديدَ النونِ ، وجَعَلوا الواوَ كأَنَّها أُدْخِلَت لعَطْفِ لا بمعْنَى بَلْ. وهي بَسِيطَةٌ عنْدَ البَصْرِيِّين.
وقالَ الفرَّاءُ : مُرَكَّبَةٌ من لكِنْ وأَنْ فَطُرِحَتِ الهمزةُ للتَّخْفيفِ ونونُ لكِنْ للسَّاكِنينِ. قالَ : ولذا نَصَبَتِ العَرَبُ بها إذا شُدِّدَتْ نونُها.
وقيلَ : مُرَكَّبَةٌ مِن لا والكاف ، وإليه أَشارَ الجوْهرِيُّ بقَوْلِه : وبعضُ النَّحْويين يقولُ أَصْله أنَّ واللامُ والكافُ زَوائِدٌ ، ويدلُّ على ذلِكَ أنَّ العَرَبَ تدخلُ اللامَ في خَبَرِها ؛ وأَنْشَدَ الفرَّاءُ :
ولكِنَّني من حُبِّها لَعَمِيدُ (١)
وقد يُحْذَفُ اسْمُها كقَوْلِهِ :
فلَوْ كُنْتَ ضَيِّبّاً عَرَفْتَ قَرابَتِي |
|
ولَكِنَّ زَنْجِيٌّ عَظيمُ المَشافِرِ (٢) |
ويُرْوَى : غَلِيظُ المَشافِرِ.
ولكِنْ ساكِنَةَ النُّونِ ضَرْبانِ : مُخَفَّفَةٌ من الثَّقِيلَةِ وهي حَرْفُ ابْتِداءٍ لا يَعْمَلُ في شيءٍ اسم ولا فِعْل خِلافاً للأَخْفَشِ ويُونُسَ ومَنْ تَبِعَهُما ، فإنْ وَلِيَها كَلامٌ فهي حَرْفُ ابْتداءٍ لمُجرَّدِ إفادَةِ الاسْتِدْراكِ ولَيْسَتْ عاطِفَةً ، ويَجوزُ أنْ يُسْتَعْملَ بالواوِ نَحْو قَوْلِه تعالى : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ) (٣) ، وبدُونِها نَحْو قَوْلِ زُهَيْرٍ :
إنَّ ابنَ وَرْقاء لا تُخْشَى بَوادِرُه |
|
لكن وَقائِعَه في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ (٤) |
وإن وَلِيَها مُفْرَدٌ فهي عاطِفَةٌ بشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُما أن يَتَقَدَّمَها نَفْيٌ أَو نَهْيٌ ، ويلزمُ الثاني مِثْل إعْراب الأوَّل.
وقالَ الجاربردي : إذا عَطَفَتْ لكِن المُفْرَد على المُفْرَدِ فتَجِيءُ لكِنْ بعْدَ النَّفْي خاصَّةً بعَكْسِ لا فإنَّها تَجِيءُ بعْدَ الإثْباتِ خاصَّةً كقَوْلِكَ : ما رأَيْتُ زيْداً لكِنَّ عَمْراً ، أَي لكِنَّ رأَيْتَ عَمْراً فإن قُلْتَ : ما رأَيْتَ زيْداً لكِنَّ عَمْراً لم يَجِزْ ؛ والثَّاني : أنْ لا تَقْتَرِنَ بالواوِ (٥) ، وقالَ قَوْمٌ لا تكونُ مع المُفْرَدِ إلَّا بالواوِ.
وقالَ الجوْهرِيُّ : لا تَجوزُ الإمالَة في لَكِنَّ وصُورَةُ اللّفْظِ بها لا كِنَّ وكُتِبَتْ في المَصاحِفِ بغيرِ أَلِفٍ وأَلِفُها غيرُ مُمَالَةٍ.
وقالَ ابنُ جنِّي : وأَمَّا قِراءَتُهم : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)
__________________
(١) اللسان وفي الصحاح : «لكميد» وصدره :
يلومونني في حب ليلى عواذلي
(٢) من شواهد القاموس والمغني ص ٣٨٤ والبيت للفرزدق ، ديوانه ص ٤٨١ وورد البيت في الأغاني ٢١ / ٣٥٤ برواية :
فلو كنت ضبياً إذن ما حسبتني |
|
ولكن زنجياً غليظاً مشافره |
(٣) الزخرف ، الآية ٧٦.
(٤) شرح ديوانه ص ٣٠٦ ، ومغني اللبيب ص ٣٨٥.
(٥) وهو قول الفارسي وأكثر النحويين.