هذه الآيَة قالَ : أَي أَنْتُم خَيْر أُمَّةٍ ، قالَ : ويقالُ مَعْناه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) في عِلْمِ اللهِ.
وعليه خَرَّجَ بعضٌ قَوْلَه تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١) ، لأنَّ كانَ بمَنْزلَةِ ما في الحالِ ، والمعْنَى : واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إلَّا أَنْ كَوْنَ الماضِي بمعْنَى الحالِ قَلِيلٌ. واحْتَجّ صاحِبُ هذا القَوْلِ بقَوْلِهم : غَفَرَ اللهُ لفلانٍ ، بمعْنَى لِيَغْفِر اللهُ ، فلمَّا كانَ في الحالِ دَليلٌ على الاسْتِقْبالِ وَقَعَ الماضِي مُؤَدِّياً عنها اسْتِخْفافاً لأنَّ اخْتِلافَ أَلْفاظِ الأَفْعالِ إنَّما وَقَعَ لاخْتِلافِ الأَوْقاتِ ؛ ومنه قَوْلُ أَبي جُنْدبٍ الهُذَليِّ :
وكنتُ إذا جارِي دعا لمَضُوفةٍ |
|
أُشَمِّرُ حتى يَنْصُفَ الساقَ مِئْزَرِي (٢) |
وإنَّما يخبر عن حالِهِ لا عمَّا مَضَى مِن فِعْلِه.
وكَيْوانُ زُحَلُ مَمْنُوعٌ مِن الصَّرْفِ ، والقَوْلُ فيه كالقَوْلِ في خَيْوانَ ، والمانِعُ له مِن الصَّرْفِ العُجْمة ، كما أنَّ المانِعَ لخَيْوان مِن الصَّرفِ إنَّما هو التّأْنِيثُ وإرادَةُ البُقْعَة أَو الأَرْض أَو القَرْجيَةِ ، وسَيَأْتي.
وسَمْعُ الكِيانِ : كتابٌ للعَجَمِ.
قالَ ابنُ بَرِّي : هو بمَعْنَى سَماعِ الكِيانِ ، وهو كتابٌ أَلَّفَه أَرَسْطو.
والاسْتِكانَةُ : الخُضوعُ والذّلُّ. جَعَلَهُ بعضُهم اسْتَفْعَلَ من الكَوْنِ ، وجَعَلَهُ أَبو عليِّ مِنَ الكَيْنِ وهو الأشْبَهُ.
وقالَ ابنُ الأنْبارِي : فيه قَوْلان : أَحَدُهما : أَنَّه مِن السَّكِينَةِ وأَصْلُه اسْتَكَن افْتَعَلَ من سَكَنَ ، فمُدَّتْ فتحةُ الكافِ بأَلفٍ ؛ والثاني : أَنَّه اسْتِفْعالٌ من كانَ يكونُ.
والمَكانَةُ : المَنْزِلَةُ ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.
وتقدَّمَ كَلامُ ابنُ بَرِّي قَرِيباً في الرَّدِّ عليه.
وقال الفناري في شرْحِ دِيباجَةِ المُطوَّلِ : إنَّ مِنَ العَجَبِ إيرادَ الجوْهرِيِّ المَكانَة في فصْلِ الكافِ مِن بابِ النونِ مع أَصالَةِ مِيمِها.
والتَّكَوُّنُ : التَّحَرُّكُ ؛ عن ابنِ الأَعْرابيِّ ، قالَ : وتَقُولُ العَرَبُ للبَغِيضِ : لا كانَ ولا تَكَوَّنَ ، أَي لا خُلِقَ ولا تَحَرَّكَ ، أَي ماتَ.
* وممَّا يُسْتدركُ عليه :
الكَوْنُ : واحِدُ الأكْوانِ مَصْدَرٌ بمعْنَى المَفْعول.
ولم يَكُ أَصْلُه يكونُ حُذِفَتِ الواوُ لالْتِقاءِ الساكِنَيْنِ ، فلمَّا كَثُر اسْتِعمالُه حَذَفُوا النونَ تَخْفيفاً ، فإذا تحرَّكَتْ أَثْبتُوها ، قالوا : لم يَكُنِ الرَّجُلُ ؛ وأَجازَ يونُسُ حذْفَها مع الحرَكَةِ ، وأَنْشَدَ :
إذا لم تَكُ الحاجاتُ من همَّةِ الفَتى |
|
فليس بمُغْنٍ عنكَ عَقْدُ الرَّتائِمِ (٣) |
ومِثْلُه ما حكَاه قُطْرُب : أنَّ يونُسَ أَجازَ لم يَكُ الرَّجُل مُنْطلقاً ؛ وأَنْشَدَ للحَسَنِ بنِ عُرْفُطة :
لم يَكُ لحق سوى أَنْ هَاجَهُ |
|
رَسْمُ دارٍ قد تَعَفَّى بالسَّرَرْ (٤) |
وحَكَى سِيبَوَيْه : أَنا أَعْرِفُكَ مُذْ كُنْتَ ، أَي مُذْ خُلِقْتَ ، والسَّكَوُّنُ ؛ الحُدُوثُ ، وهو مُطاوعُ كَوَّنَه اللهُ تعالى ؛ وفي الحدِيثِ : «فإنَّ الشَّيْطانَ لا يَتَكَوَّنُني» ؛ وفي رِوايَةٍ : لا يَتَكَوَّنُ على (٥) صُورَتِي.
وحَكَى سِيبَوَيْه في جَمْع مَكانٍ أَمْكُنٌ ، وهذا زائِدٌ في الدَّلالَةِ على أَنَّ وَزْنَ الكَلِمةِ فَعَال دُونَ مَفْعَل.
وحَكَى الأَخْفَش في كتابِ القَوافِي : ويقُولُونَ أَزَيْداً كُنْتَ له.
قالَ ابنُ جنِّي : إن سُمِعَ عنهم ذلِكَ ففيه دَلالَةٌ على جَوَازِ تقْدِيمِ خَبَر كانَ عليها.
__________________
(١) النساء ، الآية ٩٦.
(٢) شحر أشعار الهذليين ١ / ٣٥٨ واللسان والصحاح.
(٣) اللسان والصحاح.
(٤) اللسان.
(٥) الأصل واللسان ، وفي النهاية : «في صورتي».