وهذان سبيلان ، على ظاهر الامر ، متباينان. غير ان الباحث عن علوم ارسطوطاليس ، والدارس ، لكتبه ، والمواظب عليها ، لا يخفى عليه مذهبه في وجوه الاغلاق والتعمية والتعقيد ، مع ما يظهره من قصد البيان والايضاح. من ذلك ما يوجد في اقاويله من حذف المقدّمة الضرورية من كثير من القياسات الطبيعية والالهية والخلقية التي اوردها؛ مما دلّ على مواضعها المفسّرون لها. ومن ذلك حذف كثير من النتائج ، وحذف الواحد من كل زوجين ، والاقتصار على الواحد منهما؛ مثل قوله في «رسالته الى الاسكندر» ، في سياسات المدن الجزئية : «من آثر اختيار العدل في التعاون المدني ، فخليق ان يميّزه مدبّر المدينة في العقوبة». وتمام هذا القول هكذا : من آثر اختيار العدل على الجور ، فخليق ان يميّزه مدبّر المدينة في العقوبة والثواب. يعني ان من آثر العدل ، فخليق ان يثاب ، كما ان من آثر الجور ، فخليق ان يعاقب.
ومن ذلك ، ذكره لمقدمتي قياس ما ، واتباعهما نتيجة قياس آخر ، وذكره لمقدمتي قياس ، واتباعه نتيجة لوازم تلك المقدّمات ، مثل ما فعله في كتاب «القياس» (١) ، عند ذكر اجزاء الجواهر انها جواهر. ومن ذلك ، (إشباعه) القول في تعديد جزئيات الشيء الواضح ، ليرى ، من نفسه ، البلاغ والجهد في الاستيفاء؛ ثم تجاوزه عن الغامض من غير اشباع في القول ، ولا توفيته في الخط.
__________________
(١) كتاب القياس هو أحد أجزاء كتاب المنطق الذي وضعه أرسطو والأجزاء الأخري هي المقولات والعبارة والتحليلي الأول أو القياس ، والتحليلي الثاني أو البرهان ، والجدل والمغالطة أو السفسطة.