تعقيد في جاءني أحمد بالتنوين لأنّ جاءني أحمد يفيد مجيء أحمد ما لا الشخص المعيّن ، فلا يكون ظاهر الدلالة على الشخص المعيّن المراد. مثاله قول الفرزدق (١) في مدح خال هشام بن عبد الملك (٢) وهو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي : (٣)
وما مثله في النّاس إلاّ مملّكا |
|
أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه. |
أي ليس في الناس مثله حيّ يقاربه في الفضائل إلاّ مملّك وهو الذي أعطي الملك والمال ، يعني هشاما ، أبو أمّه أي أبو أم ذلك المملّك ، أبوه أي أبو إبراهيم الممدوح ، أي لا يماثله أحد إلاّ ابن أخته وهو هشام ، ففيه فصل بين المبتدأ والخبر أعني أبو أمه أبوه بالأجنبي الذي هو حيّ ، وبين الموصوف والصفة أعني حيّ يقاربه بالأجنبي الذي هو أبوه ، وتقديم المستثنى أعني مملّكا على المستثنى منه أعني حيّ ، ولهذا نصبه ، وإلاّ فالمختار البدل. فهذا التقديم شائع الاستعمال لكنه أوجب زيادة في التعقيد. والمراد بالخلل في الانتقال الخلل الذي ليس لخلل النظم وإلاّ فعدم ظهور الدلالة لخلل في النظم إنّما هو لخلل في الانتقال. قال في الإيضاح والكلام الخالي عن التعقيد المعنوي ما يكون الانتقال فيه من معناه الأول إلى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهرا حتى يخيّل إلى السّامع أنّه فهمه من حاق اللفظ انتهى. والمراد أنّه فهمه قبل تمام الكلام لغاية ظهوره على زعمه. واعترض عليه بأنّه يفهم منه لزوم كون الجامع في الاستعارة ظاهرا ، وقد ذكروا أنّ الجامع إذا ظهر بحيث يفهمها غير الخاصة تسمّى مبتذلة ويشترطون في قبولها أن يكون الجامع غامضا دقيقا. فبين الكلامين تدافع وأجيب بأنّ غموض الاستعارة ودقّة جامعها لا ينافي وضوح طريق الانتقال بأن لا يكون مانع لغوي أو عرفي ، ولا يرد الإبهام الذي عدّ من المحسّنات للكلام البليغ ، لأنّه إنّما يعدّ محسّنا عند وضوح القرينة الدالة على المراد. والاعتراض بأنّ سهولة الانتقال ليست بشرط في قبول الكنايات وإلاّ لزم خروج أكثر الكنايات المعتبرة عند القوم من حيّز الاعتبار خارج عن حيّز الاعتبار ، لأنّ صعوبة الانتقال في تلك الكنايات إن أدّت إلى التعقيد فلا نسلّم اعتبارها عندهم. كيف وقد صرّحوا بأنّ المعمّى واللغز غير معتبرين عندهم لاشتمالهما على التعقيد. واعترض أيضا أنّه يلزم أن لا يكون الكلام الخالي عن المعنى الثاني فصيحا لأنّه ليس له الخلوص عن التعقيد ودفعه بأنّ مثل هذا الكلام بمنزلة الساقط عن درجة الاعتبار عند البلغاء غير وجيه ، لأنّ الكلام الخالي عن المجاز والكناية إذا روعي فيه المطابقة لمقتضى الحال كيف
__________________
(١) هو همّام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي ، أبو فراس ، الشهير بالفرزدق. ولد بالبصرة وتوفي فيها عام ١١٠ هـ / ٧٢٨ م. شاعر من النبلاء ، له أثر كبير في الأدب واللغة. قيل عنه : لو لا شعر الفرزدق لذهب ثلث اللغة. وهو أحد أعمدة المثلث الأموي في الشعر مع جرير والأخطل. له ديوان شعر مطبوع ، وقد كتب عنه الكثيرون. الاعلام ٨ / ٩٣ ، رغبه الآمل ١ / ١١٤ ، وفيات الاعيان ٢ / ١٩٦ ، معاهد التنصيص ١ / ٤٥ ، خزانة الأدب ١ / ١٠٥ ، الأغاني ٩ / ٣٢٤ ، الشعر والشعراء ٤٤٢ ، مفتاح السعادة ١ / ١٩٥.
(٢) هو هشام بن عبد الملك بن مروان. ولد في دمشق عام ٧١ هـ / ٦٩٠ م. وتوفي في الرصافة عام ١٢٥ هـ / ٧٤٣ م. من خلفاء بين أمية. كانت له وقائع مشهورة مع الخارجين على الحكم ، كما كان حسن السياسة ، يقظا في أمره ، يباشر الأعمال بنفسه. الاعلام ٨ / ٨٦ ، ابن الأثير ٥ / ٩٦ ، الطبري ٨ / ٢٨٣ ، تاريخ الخميس ٢ / ٣١٨ ، اليعقوبي ٣ / ٥٧ ، المسعودي ٢ / ١٤٢ ، تاريخ الاسلام للذهبي ٥ / ١٧٠.
(٣) هو ابراهيم بن هشام بن اسماعيل المخزومي القرشي. توفي بعد عام ١١٥ هـ / ٧٣٣ م. أمير المدينة وخال الخليفة هشام بن عبد الملك. كان شديدا وقاسيا حتى شكاه الناس للخليفة فعزله هشام عام ١١٥ هـ وانقطعت أخباره. الاعلام ١ / ٧٨ ، النجوم الزاهرة ١ / ٢٥٤ ، المحبّر ٢٩.