قوله تعالى (بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) (١) فيمن قرأ ليريه بلفظ الغيبة فيه التفات من التكلّم إلى الغيبة ثم من الغيبة إلى التكلم مع أن قوله (مِنْ آياتِنا) ليس بكلام آخر بل هو من متعلّقات ليريه ؛ هذا التفسير هو المشهور فيما بين الجمهور.
وقال السكاكي : الالتفات عند أهل المعاني إمّا ذلك التعبير أو التعبير بأحدها فيما حقّه التعبير بغيره ، وكأنه حمل السكاكي قولهم بعد التعبير عنه بآخر منها على أعم من التعبير حقيقة أو حكما ، فإنّ اقتضاء المقام تعبيرا في حكم التعبير ، فالتفسير المشهور أخصّ من تفسير السكاكي فقول الشاعر : تطاول ليلك بالإثمد.
فيه التفات على تفسير السكاكي ، وقد صرّح بذلك أيضا إذ مقتضى الظاهر أن يقال : تطاول ليلي ، وليس على التفسير المشهور منه إذ لم يذكر تطاول ليلي سابقا. هذا خلاصة ما في المطول والأطول ، فظهر أنّ الالتفات ستة أقسام. فمن التكلّم إلى الخطاب قوله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ، وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٢) ، ومن التكلّم إلى الغيبة قوله (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) (٣) والأصل لنغفر لك ، ومن الخطاب إلى التكلّم لم يقع في القرآن ومثّل له بعضهم بقوله (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) (٤) ، ثم قال (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا) (٥) ، وهذا المثال لا يصحّ لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحدا. ومن الخطاب إلى الغيبة قوله (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (٦) والأصل بكم. ومن الغيبة إلى الخطاب قوله (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ) (٧) والأصل لقد جاءوا. ومن الغيبة إلى التكلّم قوله : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا) (٨).
تنبيهات
الأوّل شرط الالتفات بهذا المعنى أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه ، وإلاّ يلزم أن يكون في أنت صديقي التفات. الثاني شرطه أيضا أن يكون في جملتين صرّح به صاحب الكشاف وغيره. الثالث ذكر التنوخي في الأقصى الغريب (٩) وابن الأثير وغيرهما نوعا غريبا من الالتفات وهو بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلّمه كقوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (١٠) بعد أنعمت ، فإنّ المعنى غير الذين غضبت عليهم. وتوقف صاحب عروس الأفراح. الرابع قال ابن أبي الإصبع : جاء في القرآن من الالتفات قسم غريب جدا لم أظفر في الشعر بمثاله ، وهو أن يقدم المتكلّم في كلامه مذكورين مرتّبين ثم يخبر عن الأول منهما وينصرف عن الإخبار عنه إلى الإخبار عن الثاني ، ثم يعود إلى الإخبار عن الأول كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ
__________________
(١) الأسراء / ١.
(٢) الأنعام / ٧١ ـ ٧٢.
(٣) الفتح / ١ ـ ٢.
(٤) طه / ٧٢.
(٥) طه / ٧٣.
(٦) يونس / ٢٢.
(٧) (مريم / ٨٨ ـ ٨٩.
(٨) فصلت / ١٢.
(٩) الأقصى الغريب والصحيح الأقصى القريب في علم البيان لأبي علي محمد بن محمد التنوخي ، زين الدين GALS ,I ,٤٩٩.
(١٠) الفاتحة / ٧.