بالكلام البليغ كما عرف ، فلا يتمّ تعريف الإيجاز والإطناب ما لم يقيّد بالبلاغة لجواز أن يكون الناقص الوافي غير فصيح ، وكذا الزائد لفائدة انتهى ما قال صاحب الأطول.
اعلم أنه قال السكّاكي : قد يوصف الكلام بالاختصار لكونه أقل من عبارة المتعارف كما سبق ، وقد يوصف به لكونه أقل من العبارة اللائقة بالمقام بحسب مقتضى الظاهر نحو : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (١) فإنه إطناب بالنسبة إلى المتعارف ، وهو قولنا يا ربي شخت ، لكنه إيجاز بالنسبة إلى ما يقتضيه المقام لأنه مقام بيان انقراض الشباب ونزول المشيب ، فينبغي أن يبسط الكلام فيه غاية البسط ، فعلم أنّ للإيجاز معنيين : أحدهما كون الكلام أقل من عبارة المتعارف والثاني كونه أقل مما هو مقتضى ظاهر المقام ، وأنه لا فرق بين الإيجاز والاختصار وإن توهّمه البعض كما ورد في لفظ الإجازة. ثم إنّ بين الإيجازين عموما من وجه لتصادقهما فيما هو أقلّ من عبارة المتعارف ، ويقتضي المقام جميعا كما إذا قيل ربّ شخت بحذف حرف النداء وياء الإضافة ، وصدق الأوّل بدون الثاني كما في قوله إذا قال : الخميس نعم بحذف المبتدأ فإنه أقل من المتعارف ، وهو هذا نعم ، وليس أقل من مقتضى المقام لأنّ المقام لضيقه يقتضي حذف المسند إليه وصدق الثاني بدون الأول كما في قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ويمكن اعتبار هذين المعنيين في الإطناب أيضا.
والنسبة بين الإطنابين أيضا عموم من وجه لأنّ الإطناب بالمعنى الأول دون الثاني يوجد في قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ، وبالمعنى الثاني دون الأول يوجد في ما إذا قيل : هذا نعم بذكر المبتدأ بناء على مناسبة خفية مع ذلك المقام ، ويوجد بالمعنيين فيما إذا زيد في هذا المثال نظرا إلى ما ذكر من المناسبة الخفية ، فقيل مثلا : هذا نعم فاغتنموه ؛ وكذا بين الإيجاز بالمعنى الثاني وبين الإطناب بالمعنى الأول عموم من وجه لوجودهما في قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ووجود الإطناب بالمعنى الأول دون الإيجاز بالمعنى الثاني فيما إذا قال هذا نعم فسوقوه إذا طابق المقام على ما مرّ ، وبالعكس فيما إذا قال يا ربي قد شخت ، وكذا بين الإيجاز بالمعنى الأول والإطناب بالمعنى الثاني لوجودهما في غزال فاصطادوه إذا طابق المقام عند كون الأمر بالاصطياد مقصودا أصليا للمتكلّم ، فإن متعارف الأوساط هذا غزال فاصطادوه. ومقتضى ظاهر المقام غزال ووجود الإيجاز بالمعنى الأول دون الإطناب بالمعنى الثاني في قوله قد شخت ، وبالعكس في قوله هذا نعم عند مناسبة خفية.
واعلم أيضا أنه كما يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب باعتبار كونه ناقصا عمّا يساوي أصل المراد أو زائدا عليه وهو الأكثر كذلك قد يوصف الكلام بهما باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة إلى كلام آخر مساو له ، أي لذلك الكلام ، في أصل المعنى. وإنما قيد المعنى بالأصل لعدم إمكان المساواة في تمام المراد فإن للإيجاز مقاما ليس للإطناب ، وبالعكس ، ولا يوصف بالمساواة بهذا الاعتبار إذ ليس المساواة بهذا الاعتبار مما يدعو إليه المقام بخلاف الإيجاز والإطناب ، هكذا يستفاد من الأطول والمطول وأبي القاسم.
واعلم أيضا أنّ البعض على أن الإطناب بمعنى الإسهاب. والحق أنه أخصّ من الإسهاب ، فإن الإسهاب التطويل لفائدة أو لا
__________________
(١) مريم / ٤.