وباعتبارهم رُكناً أساساً في تقديم رسالة جليلة القَدر توازي ـ بحَجم قيمتها ونهجها وتحقيقها ـ حَجم المُجتمع الذي راح يتلمَّس حدوده الجغرافيَّة ـ الأرضيَّة المكانيَّة ـ التاريخيَّة ، التي كان يتمدَّد إليها بقبائله النابتة منه ، والهائمة الفائضة ، مُنذ السَّحق مِن الزمان ـ مِن كلِّ هذه المفاوز والفَدافد ، إلى ضفاف النيل ، وروافد السخيِّين دجلة والفرات ، وإلى حِضن الطريِّ المُندَّاة به غوطة الشام ، يسقيها ـ كُوباً كُوباً ـ كوثر مِن بَرَدَى ... هؤلاء كانوا فيضاً من هذه الجزيرة المُباركة الحِضن والنِّهد. لقد توزَّع ـ مِن عادهم وثمودهم ، وقحطانهم وعدنانهم ، ويمنيِّهم وقيسيِّهم ـ كلُّ مَن سُمي : كلدانيَّاً ، وآشوريَّاً ، وآراميَّاً ، وأموريَّاً ، وبابليَّاً ، وفينيقيَّاً كنعانيَّاً ... ها هي الرسالة الآن تلحمهم بعضاً ببعض ، مِن وادي مصر ، إلى البصرة والكوفة النابضتين بالعراقين ، إلى دمشق ، وحَلَب ، وحَمص ، وحماه ، والشاطئ المخصب باللاذقيَّة ، إلى جبيل ، وبيروت ، وصور ، وصيدا والأور المُقدَّس الماء ، والجو ، والتبر التراب. إنَّها كلَّها الآن في التحام واحد بين يدي الرسالة التي ضمَّخت الأُمَّة بمشيئتها الباهرة ، وحطَّمت كلَّ صنميَّاتها ، أكانت نصباً في سِدانات الكعبة ، أم حِجارة أثافي حول المضارب والخيام ، أم غزوات ونخوات قبائليَّة عتيقة تنفَّست بها الصراعات والنزاعات حول المساقي والمراعي ، إنَّها هي الرسالة التي جمعت الأُمَّة ، ونجَّتها مِن تخرُّقاتها ، ومُبايعاتها ، والتفافاتها بأزلامها ، وأقداحها ، وعرَّافاتها ، وكهاناتها ، وجميع ترَّهاتها.
إنَّ الخلافة العمريَّة هي التي ستفكِّك الأُمَّة ، باتِّباعها نهجاً تصدَّت له الرسالة ، مُنذ لملمت المُجتمع ونظَّفته مِن قبليَّاته الذميمة. إنَّه النهج الذي اشتغل صامتاً مِن أجل تحقيق غرض أثيم ، هو تحطيم البيت النبويِّ وتثبيت البيت الأُمويّ. إنَّه النهج الرجوع إلى الصراع القبلي ، وتعزيز الواحدة بإنهاك الأُخرى ، ورميها تحت السنابك. إنَّه النهج الذي يشحذ الحقد ويتسلَّح به حتَّى البلوغ ، وهذا ما تنكَّر له البيت النبويِّ ، إذ مَدَّ يد المُصافحة للعدوِّ اللدود بعد أنْ دخل مَكَّة بزندٍ مُنتصر ، وحطَّم الصنم وعزَّز بالسماح المحبَّة ، ربط الإنسان بالإنسان.