فهو مُتَبَلِّلٌ أَثَارَ بمَخَالِبِه الأَرضَ وهو يَزْأَرُ عنْدَ القتالِ قالَ أُمَيَّةُ بنُ أَبي عائِذٍ (١) الهُذَليُّ :
تَكَنَّفنيّ السَّيدَانِ سِيدٌ مَوَاثِبٌ |
|
وسِيد بوالي زَأْرَه بالتَّبَلّلِ(٢) |
وجاءَ في أُبُلَّتِه بالضمِ أي قَبيلَتِهِ وعَشِيْرتِه وفي ضَبْطِه قصورٌ بالِغٌ ، فإنَّ قولَه بالضم يدلُ على أنَّ ما بعْدَه ساكنٌ واللَّامُ مُخفَّفة (٣) وليس كذَلِكَ بل هو بضمَّتينٍ وتشديدِ اللَّامِ مع فَتْحِها ومَحَلّ ذِكْرِه في «ا ب ل» ، فإنَّ الأَلفَ أَصْلِيَّة وقد أَشَرْنا له هناك فراجِعْه.
وبَلْ حَرْفُ إِضْرابٍ عن الأَولِ للثاني إنْ تَلَاها جُمْلَة كان معنَى الإِضْرابِ إِمَّا الإِبْطالَ ك (سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٤) وإِمَّا الإِنْتقالَ من غَرَضٍ إلى غَرَضٍ آخَرَ كقَوْلِه تعالى : فَصَلّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٥) وإنْ تَلاها مُفْرَدٌ فهي عاطفَةٌ يُعْطَفُ بها الحرفُ الثاني على الأَوَّلِ ثم إنْ تَقَدَّمَها أَمرٌ أَو إيجابٌ كاضْرِبْ زَيْداً بَلْ عَمْراً أَو قامَ زَيدٌ بَلْ عَمْرٌو فهي تَجْعَلُ ما قَبْلَها كالمَسْكوتِ عنه وإنْ تَقَدَّمَها نَفْيٌ أَو نَهْيٌ لتَقْريرِ ما قَبْلَها على حالِهِ وجَعْلِ ضِدِّهِ لِمَا بعدَها وأُجيزَ أَنْ تكونَ ناقِلَةً معنَى النَّفْيِ والنَّهْي إلى ما بعدَها فَيصحُّ أَنْ يقالَ ما زَيْدٌ قائماً بَلْ قاعِداً وما زَيدٌ قائمٌ بَلْ قاعِدٌ ويَخْتَلِفُ المعنَى.
وفي التَّهْذِيبِ : قالَ المبردُ : بَلْ حُكْمُها الاسْتِدْرَاك أَيْنما وَقَعَتْ في جَحْدٍ أو إِيجابٍ. وبَلَى : يكونُ إِيجاباً للمَنْفيِّ لا غيرُ. وقالَ الفَرَّاءُ : بَلْ يأتي بمعْنَيْين يكونُ إضراباً عن الأَوَّلِ وإِيجاباً للثاني كقولِكَ عندِي له دينارٌ لا بَلْ دِينَارَان ، والمَعْنَى الآخَرَ أَنَّها تُوجِبُ ما قَبْلها وتوجبُ ما بعدَها ، وهذا يسمَّى الاسْتِدْرَاك لأَنَّه أَرَاده فنَسِيَه ثم اسْتَدْرَكه. ومَنعَ الكوفِيُّون أَنْ يُعْطَفَ بها بعدَ غيرِ النَّهْيِ وشِبْهِهِ لا يقالُ ضَرَبْتُ زيداً بَلْ أَباكَ وقالَ الرَّاغبُ : بَلْ للتَّدَاركِ ، وهو ضَرْبان : ضَرْبٌ يناقِضُ ما بعدَه ما قَبْلَه لكن ربّما يقصد [بِه] (٦) لتصْحيحِ الحُكْمِ الذي بعْدَه إِبْطال ما قَبْله ، وربَّما قُصِدَ تَصْحيح (٧) الذي قَبْله وإِبْطال الثاني ، ومنه قَوْلُه تعَالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨) (كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٩) ، أي ليسَ الأَمْرُ كما قالُوا بَلْ جَهلُوا فنبَّه بقولِه : (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، على جَهْلِهم وعلى هذا قَوْله في قصَّة إبْراهيم (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟ قالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (١٠). وممَّا قُصِدَ به تَصْحيحَ الأَوَّل وإِبْطال الثاني قَوْلُه : (وَأَمّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (١١) أي ليسَ إعْطاؤُهم [المال] (١٢) من الإِكْرامِ ولا مَنْعُهم من الإِهَانَةِ لكن جَهِلُوا ذلِكَ لوضْعِهم المالَ في غيرِ موضِعِه ، وعلى ذلِكَ قَوْله تعَالَى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) (١٣). فإنَّه دَلَّ بقولِه (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أَنَّ القُرْآنَ مَقَرٌّ للتَّذَكُّرِ وأَنْ ليس من امْتِناعٍ القُرْآنِ من الإِصْغاءِ إليه أَنْ ليسَ موضِعاً للذِّكْرِ بَلْ لتَعَزّزِهم ومَشَاقَّتِهِمْ.
والضَّرْبُ الثاني من بَلْ هو أَنْ يكونَ سَبَباً (١٤) للحكْمِ الأَوَّلِ وزائِداً عليه بما بعدَ بَلْ نحو قَوْله (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ) (١٥) فإنّه نبَّه أنَّهم يقُولُون أَضْغاثَ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاه ، يزِيْدُون على ذلِكَ بأنَّ الذي أَتى به مُفْترًى افْتَرَاه بأنْ يزِيْدُوا فيَدَّعُوا أَنَّه كذَّابٌ والشاعِرُ في القُرْآنِ عِبارَةٌ عن الكاذِبِ بالطَّبْعِ وعلى هذا قَوْله : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) (١٦) أَي لو يَعْلَمُون ما هو زائِدٌ على الأَوَّل وأَعْظَم منه وهو أَنْ تَأْتِيَهم بغْتَةً
__________________
(١) بالأصل «عائد» بالدالِ ، خطأ.
(٢) شرح أشعار الهذليين ٢ / ٥٣١ برواية : وسيد يتالي.
(٣) الأصل «مخفة».
(٤) سورة الأنبياء الآية ٢٦.
(٥) سورة الأعلى من الآية ١٥ و ١٦ وبالأصل «تؤثرون بدون همز».
(٦) زيادة عن المفردات.
(٧) العبارة في المفردات : وربما قصد به لتصحيح الذي قبله وإبطال الثاني ، فمما قصد به تصحيح الثاني وإبطال الأول قوله تعالى : (إِذا تُتْلى) ..
(٨) سورة القلم الآية ١٥.
(٩) سورة المطففين الآية ١٣.
(١٠) سورة الأنبياء الآيتان ٦٢ و ٦٣.
(١١) الفجر الآية ١٥.
(١٢) زيادة عن المفردات.
(١٣) سورة ص الآية الأولى.
(١٤) المفردات : مبيّناً.
(١٥) سورة الأنبياء الآية ٥.
(١٦) الأنبياء الآيتان ٣٩ و ٤٠.