الأمور مرضاته لئلاّ يبكي ، وهما لا يعلمان انّ البكاء اصلح له ، واجمل عاقبة ؛ فهكذا يجوز ان يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالاهمال ، ولو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشّيء : انّه لا منفعة فيه ؛ من اجل انّهم لا يعرفونه ولا يعلمون السّبب فيه ؛ فانّ كل ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون ، وكثير ممّا يقصر عنه علم المخلوقين ، محيط به علم الخالق جلّ قدسه وعلت كلمته.
فأمّا ما يسيل من افواه الأطفال من الرّيق ، ففي ذلك خروج الرّطوبة الّتي لو بقيت في ابدانهم ، لأحدثت عليهم الأمور العظيمة ، كمن تراه قد غلبت عليه الرّطوبة ، فأخرجته إلى حدّ البله والجنون والتخليط ، إلى غير ذلك من الأمراض المختلفه كالفالج واللّقوة وما اشبههما ؛ فجعل اللّه تلك الرّطوبة تسيل من افواههم في صغرهم ، لما لهم في ذلك من الصّحّة في كبرهم ؛ فتفضّل على خلقه بما جهلوه ، ونظر لهم بما لم يعرفوه. ولو عرفوا نعمه عليهم لشغلهم ذلك عن التّمادي في معصيته. فسبحانه ما اجل نعمته واسبغها على المستحقّين وغيرهم من خلقه! وتعالى عمّا يقول المبطلون علوّا كبيرا.
انظر الآن يا مفضّل كيف جعلت آلات الجماع في الذّكر والأنثى جميعا ، على ما يشاكل ذلك. فجعل للذّكر آلة ناشرة تمتدّ ، حتّى تصل النّطفة إلى الرّحم اذا كان محتاجا إلى ان يقذف ماءه في غيره ؛ وخلق للأنثى وعاءا قعر ليشتمل على المائين جميعا ، ويحتمل الولد ويتّسع له ويصونه حتّى يستحكم ؛ أليس ذلك من تدبير حكيم لطيف؟ سبحانه وتعالى عمّا يشركون.
هكذا تجد الذّكر من الحيوان كأنّه فرد من زوج مهيا من فرد انثى فيلتقيان ، لما فيه من دوام النّسل وبقائه ؛ فتبّا وخيبة وتعسا لمنتحلي الفلسفة ، كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة ، حتّى انكروا التّدبير والعمد فيها. لو كان فرج الرّجل مسترخيا ، كيف كان يصل إلى قعر الرّحم حتّى يفرغ النّطفة فيه؟ ولو كان منعّظا ابدا ، كيف كان الرّجل يتقلّب في الفراش؟ أو يمشي بين النّاس وشيء شاخص امامه؟ ثمّ يكون في ذلك مع قبح المنظر تحريك الشّهوة في كلّ وقت من الرّجال والنّساء جميعا. فقدّر اللّه جلّ اسمه ان يكون اكثر ذلك لا يبدو للبصر في كلّ وقت ، ولا يكون على الرّجال منه مؤونة ؛ بل جعل فيه القوّة على الأنتصاب وقت الحاجة إلى ذلك ، لما قدّر ان يكون فيه دوام النّسل وبقاؤه.
فكر يا مفضّل في اعضاء البدن اجمع وتدبير كلّ منها للارب ؛ فاليدان للعلاج ، والرّجلان للسّعى ، والعينان للاهتداء ، والفم للأغتذاء ، والمعدة للهضم ، والكبد للتّخليص ، والمنافذ