التقدير يأتيان بالخطاء والمحال ، لأنّهما ضد الاهمال ، وهذا فظيع من القول ، وجهل من قائله ، لأنّ الأهمال لا يأتي بالصّواب ، والتّضادّ لا يأتي بالنّظام ، تعالى اللّه عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا.
ولو كان المولود يولد فهما عاقلا ، لأنكر العالم عند ولادته ، ولبقي حيران تائه العقل اذا راى ما لم يعرف ، وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطّير ، إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة ، ويوما بعد يوم. واعتبر ذلك بأنّ من سبي من بلد إلى بلد وهو عاقل ، يكون كالواله الحيران ، فلا يسرع في تعلّم الكلام ، وقبول الأدب ، كما يسرع الّذي يسبي صغيرا غير عاقل ؛ ثمّ لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة اذا راى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجّى في المهد ، لأنّه لا يستغنى عن هذا كله ، لرقّة بدنه ورطوبته حين يولد ، ثمّ كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطّفل. فصار يخرج إلى الدّنيا غبيّا غافلا عمّا فيه اهله ، فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ، ثمّ لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا وشيئا بعد شيء وحالا بعد حال حتّى يألف الأشياء ويتمرّن ويستمرّ عليها ، فيخرج من حدّ التأمّل لها والحيرة فيها إلى التّصرّف والاضطراب إلى المعاش بعقله وحيلته ، وإلى الأعتبار والطّاعة والسّهو والغفلة والمعصية. وفي هذا ايضا وجوه آخر فانّه لو كان يولد تامّ العقل مستقلاّ بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد ، وما قدّر ان يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة ، وما يوجب التّربية للآباء على الأبناء من المكلّفات بالبرّ والعطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم ، ثمّ كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء ابناءهم لأنّ الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الأباء وحياطتهم ، فيتفرّقون عنهم حين يولدون ، فلا يعرف الرّجل اباه وامّه ، ولا يمتنع من نكاح امّه واخته وذوات المحارم منه اذا كان لا يعرفهنّ. واقلّ ما في ذلك من القباحة بل هو اشنع واعظم وافظع واقبح وابشع ، لو خرج المولود من بطن امّه وهو يعقل ان يرى منها ما لا يحل له ، ولا يحسن به ان يراه ؛ أفلا ترى كيف اقيم كلّ شيء من الخلقة على غاية الصّواب وخلا من الخطأ دقيقه وجليله؟
اعرف يا مفضّل ما للأطفال في البكاء من المنفعه ، واعلم انّ في ادمغة الأطفال رطوبة ، ان بقيت فيها احدثت عليهم احداثا جليلة وعللا عظيمة ، من ذهاب البصر وغيره ، فالبكاء يسيل تلك الرّطوبة من رؤوسهم فيعقبهم ذلك الصّحة في ابدانهم والسّلامة في ابصارهم ، أفليس قد جاز ان يكون الطّفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك؟ فهما دائبان ليسكتاه ويتوخّيان فى