الأَزْهَرِيُّ (١) : والأَشبَه عِنْدِي قولُ الأَخْفَشِ. قال : وأَمّا عَلَى قَوْلِ الفَرّاءِ والمُبَرِّدِ فانْتِصَابُ قَوْلِهِ : (قَتْلَ أَخِيهِ) على إِفْضَاءِ الفِعْلِ إِليهِ ، كأَنَّه قالَ : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) ، أَي انْقادَتْ في قَتْلِ أَخِيهِ ، ولِقَتْلِ أَخِيه ، فحَذَفَ الخَافِضَ ، وأَفْضَى الفِعْل إِليه ، فنَصَبَه.
وِاسْتَطَاعَ : أَطَاقَ : نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ ، قال ابنُ بَرِّيّ : هو كما ذَكَرَ ، إِلَّا أَن الاسْتِطَاعَةَ للإِنْسَانِ خاصَّةٌ ، والإِطاقَةَ عامّةٌ ، تَقُولُ : الجَمَلُ مُطِيقٌ لِحِمْلِه ، ولا تَقُلْ : مُسْتَطِيعٌ. فهذا الفَرْقُ ما بَيْنَهُمَا. قال : ويُقَال لِلفَرَسِ : صَبُورٌ على الحُضْرِ.
والاسْتِطَاعَةُ : القُدْرَةُ على الشَّيْءِ ، وقِيلَ : هي اسْتِفْعَالٌ من الطّاعَةِ. وفي البَصائرِ للمُصَنِّفِ : الاسْتِطَاعَةُ ، أَصْلُه الاسْتِطْواعُ ، فلما أُسْقِطَت الواوُ جُعِلَت الهاءُ بَدَلاً عنها.
وقال الرّاغِبُ : الاسْتِطَاعَةُ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ : اسمٌ للمَعَانِي الَّتِي بها يَتَمَكَّنُ الإِنْسَانُ مِمَّا يُرِيدُه من إِحْدَاثِ الفِعْلِ ، وهي أَرْبَعَةُ أَشيَاءَ : بِنْيَةٌ مَخْصُوصَةٌ للفَاعِلِ ، وتَصَوُّرٌ للفِعْلِ ، ومَادَّةٌ قابِلَةٌ لتَأْثِيرِه ، وآلَةٌ إِنْ كان الفِعْلُ آليًّا ، كالكِتَابَةِ فإِنَّ الكاتِبِ يَحْتَاجُ إِلى هذِه الأَربَعَةِ في إِيجَادِه لِلْكِتابَةِ ، ولذلِكَ يُقَال : فُلانٌ غيرُ مُسْتَطِيعٍ للكِتَابَةِ : إِذا فَقَدَ وَاحِداً من هذِه الأَرْبَعَةِ فَصَاعِداً ؛ ويُضادُّه العَجْزُ ، وهو أَن لا يَجِدَ أَحَدَ هذِه الأَربَعَةِ فصَاعِداً ، ومَتَى وَجَد هذِه الأَربَعَةَ كُلَّها ، فمُسْتَطِيعٌ مُطْلقاً ، ومتَى فَقَدَهَا فعاجزٌ مُطْلَقاً ، ومَتَى وَجَدَ بَعْضَها دُونَ بَعْضٍ ، فمُسْتَطِيعٌ مِن وَجْهٍ ، عاجِزٌ مِنْ وَجْهٍ ، ولأَنْ يُوصَفَ بالعَجْزِ أَوْلَى.
والاسْتِطَاعَةُ أَخَصُّ من القُدْرَةِ. وقَوْلُه تعالَى : (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٢) فإِنّهُ يَحْتَاجُ إِلى هذِه الأَربَعَةِ ، وقولُه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الاسْتِطَاعَةُ الزّادُ والرّاحِلَةُ» فإِنّه بَيانٌ لما يُحْتَاجُ إِليهِ من الآلَةِ ، وخَصَّه بالذِّكْرِ دُونَ الآخَر إِذْ كانَ مَعْلُوماً ـ من حَيْثُ العَقْلُ ـ مُقْتَضَى الشَّرْعِ ، أَنَّ التَّكْلِيفَ من دُونِ تِلْك الأُخَرِ لا يَصِحُّ. وقولُه تَعَالَى : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) (٣) فالإِشْارَةُ بالاسْتِطَاعَةِ ههُنَا إِلى عَدَمِ الآلَةِ من المَالِ والظَّهْرِ ونَحْوِه ؛ وكذا قولُه عَزَّ وجَلَّ :(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) (٤).
وقد يُقَالُ : فُلانٌ لا يَسْتَطِيعُ كذا ، لمَا يَصْعُبُ عليهِ فِعْلُه ، لعَدَمِ الرِّيَاضَةِ ، وذلِكَ يَرْجِعُ إِلى افْتِقادِ الآلَةِ ، وعَدَمِ التَّصَوُّرِ ، وقد يَصِحُّ مَعَهُ التَّكْلِيفُ ، ولا يَصِيرُ الإِنْسَانُ به مَعْذُوراً ، وعَلَى هذا الوَجْهِ قالَ الله تَعَالَى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (٥) وقولُه عَزَّ وجَلَّ : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) (٦) فقد قِيلَ : إِنَّهُم قالُوا ذلِكَ قبْلَ أَنْ قَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُم بالله عَزَّ وجَلَّ ، وقِيلَ : يَسْتَطِيعُ ويُطِيعُ بمَعْنًى وَاحِدِ ، ومَعْنَاهُ : هَلْ يُجِيبُ. انتهى.
قلتُ : وقَرَأَ الكسائيّ : هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ بالتّاءِ ونَصْبِ الباءِ ، أَي هَلْ تَسْتَدْعِي إِجابَتَه فِي (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ).
وِيُقَالُ وفي الصّحاحِ : ورُبَّمَا قالُوا : اسْطَاعَ يَسْطِيعُ ، ويَحْذِفُونَ التاءَ اسْتِثْقَالاً لها مع الطاءِ ، ويَكْرَهُونَ إِدْغَام التّاءِ فِيها ، فتُحَرَّكُ السينُ ، وهِيَ لا تُحَرَّكُ أَبَداً. وقَرَأَ حَمْزَةُ ، كما في الصّحاحِ ، وهو الزيَّاتُ ، زادَ الصّاغَانِيُّ : غيْر خَلّادٍ : فما اسْطَّاعُوا بالإِدْغامِ ، فَجَمَعَ بينَ السّاكِنَيْنِ ، قالَ الأَزْهَرِيُّ : قالَ الزَّجّاجُ : من قَرَأَ بهذِه (٧) القِرَاءَةِ فهو لَاحِنٌ مُخْطِيءٌ ، زَعَمَ ذلِكَ الخَلِيلُ ويُونُسُ وسِيبَوَيْهِ ، وجَمِيعُ مَن يَقُولُ بقَوْلِهِمْ ، وحُجَّتُهُم في ذلِكَ أَنَّ السينَ ساكِنَةٌ ، وإِذا أُدْغِمَت التّاءُ في الطّاءِ صارَتْ طاءً ساكِنَةً ، ولا يُجْمَعُ بينَ سَاكِنَيْنِ.
قلت : وقَرَأْتُ في كِتَابِ الإِتْحاف لشيْخِ مَشَايِخِنا أَبِي العَبّاسِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الغَنِيِّ الدِّمْيَاطيِّ المُتَوَفَّى سنة أَلْف ومائَة وسِتَّةَ عَشَرَ ما نَصُّه : «وطَعْنُ الزَّجّاجِ وأَبِي عَلِيٍّ في هذِه القِرَاءَةِ مِنْ حَيْثُ الجَمْعُ بينَ السّاكِنيْنِ مَرْدُودٌ بأَنَّهَا مُتَواتِرَةٌ ، والجَمْعُ بَيْنَهُمَا في مِثْلِ ذلِكَ سائِغٌ جائزٌ مَسْمُوعٌ في مِثْلِه». وقَرَأْتُ في كِتَابِ النَّشْرِ لابْنِ الجَزَرِيِّ ما
__________________
(١) نص عبارة التهذيب : والأشبه عندي أن يكون معنى : طوّعت : سمّحت وسهلّت له نفسه قتل أخيه أي جعلت نفسه بهواها المردى قتل أخيه سهلاً وهوّنته.
(٢) سورة آل عمران الآية ٩٧.
(٣) سورة التوبة الآية ٤٢.
(٤) سورة النساء الآية ٢٥.
(٥) سورة الكهف الآية ٦٧.
(٦) سورة المائدة الآية ١١٢.
(٧) عن التهذيب وبالأصل «هذه القراءة».