مُفِيدٌ لا يُسْتَغْنَى عَنْ إِيرادِهِ كُلِّه ، لحُسْنِهِ ، قال : «اعْلَمْ أَنَّ الوَسَطَ ، بالتَّحْرِيكِ : اسمٌ لِمَا بَيْنَ طَرَفَي الشَّيْءِ ، وهُوَ مِنْهُ ، كقَوْلِكَ : قَبَضْتُ وَسَطَ الحَبْلِ ، وكَسَرْتُ وَسَطَ الرُّمْحِ ، وجَلَسْتُ وَسَطَ الدّارِ ، ومِنْهُ المَثَلُ : «يَرْتَعِي وَسَطاً ويَرْبِضُ حَجْرَةٍ» أَيْ يَرْتَعِي أَوْسَطَ المَرْعَى وخِيَارَهُ ما دامَ القَوْمُ في خَيْرٍ ، فإِذا أَصابَهُمْ شَرُّ اعْتَزَلَهُمْ ، ورَبَضَ حَجْرَةً ، أَيْ ناحِيَةً مُنْعَزِلاً عنهم. وجاءَ الوَسَطُ مُحَرَّكاً أَوْسَطُه على وِزانٍ يقتضِيه (١) في المَعْنَى وهو الطَّرَفُ ؛ لأَنَّ نَقِيضَ الشَّيْءِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ نَظِيرِه في كَثِيرٍ من الأَوْزَانِ ، نَحْوُ : جَوْعَان وشَبْعان ، وطَوِيلٍ وقَصِير. قال : ومِمّا جاءَ عَلَى وِزَانِ نَظِيرِهِ قَوْلُهم : الحَرْدُ ، لِأَنّه عَلَى وِزَانِ القَصْدِ ، والحَرَدُ لأَنَّهُ عَلَى وِزَانِ نَظِيرِهِ وهُوَ الغَضَبُ. يُقَالَ : حَرَدَ يَحْرِد حَرْداً ، كما يُقَالُ :قَصَدَ يَقْصِدُ قَصْداً. ويُقَالُ : حَرِدَ يَحْرَدُ حَرَداً كَما يُقَالُ :غَضِبَ يَغْضَبُ غَضَباً. وقالُوا : العَجْمُ ، لأَنَّهُ على وِزانِ العَضِّ ، وقالُوا : العَجَمُ لِحَبّ الزَّبِيبِ وغَيْرِه ، لأَنّهُ وِزَانُ النَّوَى. وقالُوا : الخِصْبُ والجَدْب لِأَنَّ وِزَانَهُمَا العِلْمُ والجَهْلُ ، لِأَنَّ العِلْمَ يُحْيِي الناسَ كما يُحْيِيهِمُ الخِصْبُ.
والجَهْلَ يُهلِكهم كما يُهْلِكُهم الجَدْبُ. وقالُوا المَنْسِرُ لِأَنَّهُ عَلَى وِزَانِ المَنْكِب. وقالوا : المِنْسَرُ ، لِأَنَّهُ [على] (٢) وِزانَ المِخْلَبِ. وقالُوا : أَدْلَيْتُ الدَّلْوَ : إِذا أَرْسَلْتَها في البِئْرِ ، ودَلَوْتُهَا : إِذا جَذَبْتَها ، فجاءَ أَدْلَى على مثال أَرْسَلَ ، ودَلَا عَلَى مِثَالِ جَذَبَ قال : فبِهذَا تَعْلَمُ صِحّةَ قَوْلِ مَنْ فَرَقَ بَيْنَ الضَّرِّ والضُّرِّ ، ولَمْ يَجْعَلْهُما بمَعْنًى ، فقالَ الضَّرُّ : بإِزاءِ النَّفْعِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُهُ ، والضُّرُّ بإِزَاءِ السُّقْمِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُهُ في المَعْنَى ، وقالُوا : فَادَ يَفِيدُ ، جاءَ عَلَى وزانِ مَاسَ يَمِيسُ ، إِذا تَبَخْتَرَ ، وقَالُوا : فادَ يَفُودُ على وِزَانِ نَظِيرِه ، وهو ماتَ يَمُوتُ ، والنَّفَاقُ في السُّوقِ جاءَ على وَزْنِ الكَسَادِ ..
والنِّفاقُ في الرَّجُلِ جاءَ على وِزَانِ الخِدَاعِ. قالَ : وهذا النَّحْوُ في كَلامِهِم كَثِيرٌ جِدًّا».
قال : «واعْلَمْ أَنَّ الوَسَطَ قَدْ يَأْتِي صِفَةً وإِنْ كانَ أَصْلُه أَنْ يَكُونَ اسْماً من جِهَةِ أَنَّ أَوْسَطَ الشَّيْءِ أَفْضَلُه وخِيَارُه ، كوَسَطِ المَرْعَى خَيْرٌ مِنْ طَرَفَيْهِ ، وكوَسَطِ المَرْعَى خَيْرٌ مِنْ طَرَفَيْهِ ، وكوَسَطِ الدَّابَّة للرُّكُوبِ خَيْرٌ من طَرَفَيْهَا لِتَمَكُّنِ الرّاكِبِ. ومنه الحَدِيثُ : «خِيَارُ الأَمُورِ أَوْسَاطُها». وقول الراجز :
إِذا رِكِبْتُ فاجْعَلانِي وَسَطَاً (٣)
فَلَمَّا كانَ وَسَطُ الشَّيْءِ أَفْضَلَهُ وأَعْدَلَهُ جازَ أَنْ يَقَعَ صفة ، وذلِكَ مِثْلُ قَوْلِه تَعالَى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً) وَسَطاً (٤) أَيْ عَدْلاً ، فهذَا تَفْسِيرُ الوَسَطِ وحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ ، وأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طَرَفَيِ الشَّيْءِ وهو مِنْهُ».
أَو هُمَا فِيمَا هُوَ مُصْمَتٌ كالحَلْقَةِ مِنَ النَّاسِ (٥) والسُّبْحَةِ والعِقْدِ فإِذا كانَتْ أَجْزَاؤُه مُتَبَايِنَةً فبالإِسْكَانِ فَقَط ، والَّذِي حُكِيَ عن ثَعْلَبٍ : وَسَطُ الشَّيْءِ بالفَتْحِ إِذا كَانَ مُصْمَتاً ، فإِذا كانَ أَجْزَاءً مُتَخَلْخِلَةً فهُوَ وَسْطٌ ، بالإِسْكَانِ لا غَيْرُ ، فتَأَمَّلْ.
أَو كُلُّ مَوْضِعٍ صَلَحَ فِيهِ بَيْنَ فهُوَ وَسْطٌ ، بالتَّسْكِينِ ، وإِلاَّ فبِالتَّحْرِيكِ ، وهذا نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ. قال : ورُبَّمَا سُكِّنَ ولَيْسَ بالوَجْهِ ، كقوْلِ الشّاعِرِ ، وهو أَعْصُرُ بنُ سَعْدِ بنِ قَيْسِ عَيْلانَ :
وقَالُوا يَالَ أَشْجَعَ يَوْم هَيْجٍ |
|
ووَسْطَ الدّارِ ضَرْباً واحْتِمَايَاً |
قال ابنُ بَرِّيّ : وأَمّا الوَسْطُ ، بسُكُونِ السِّين ، فهُوَ ظَرْفٌ لا اسْمٌ ، جَاءَ على وِزانِ نَظِيرِهِ في المَعْنَى وهُوَ بَيْنَ ، تَقُولُ :جَلَسْتُ وَسْطَ القَوْم ، أَي بَيْنَهُمْ. ومنه قَوْلُ أَبي الأَخْزَرِ الحِمّانيّ :
سَلّومَ لو أَصبَحْتِ وَسْطَ الأَعْجَمِ
أَي بَيْنَ الأَعْجَمِ.
وقال آخَرُ :
أَكْذَبُ من فاخِتَةٍ |
|
تَقُولُ وَسْط الكَرَبِ |
والطَّلْعُ لَمْ يَبْدُ لَهَا |
|
هَذا أَوانُ الرُّطَبِ |
__________________
(١) في المطبوعة الكويتية «نقيضه» والمثبت كاللسان.
(٢) زيادة عن اللسان.
(٣) تقدم قريباً برواية :
إذا رحلت فاجعلوني وسطا
(٤) سورة البقرة الآية ١٤٣.
(٥) بهامش المطبوعة المصرية : «قوله : كالحلقة من الناس والسبحة والعقد ، فيه أن هذا ليس من المصمت بل من بائن الأجزاء ، وأما المصمت فكالدار والراحة والبقعة كما في اللسان عن أحمد بن يحيى».