الوَاوِيُّ من اليائِيِّ ، والقَولُ هو الأَوَّلُ ؛ لأَنَّ الوَاوَ مَزِيدَةٌ للبِنَاءِ ، فلا يَنْبَغِي لها أَنْ تُحْذَف ، والأَصْلِيُّ أَحقُّ بالحَذْفِ لاجْتِماعِ سَاكِنَيْنِ ، أَو عِلَّةٍ تُوجِبُ أَنْ يُحْذَف حَرْفٌ. كذلِكَ القَوْلُ في كُلِّ مَفْعُولٍ من ذَوَاتِ الثّلاثَةِ إِذا كانَ من بَنَاتِ الياءِ فإِنَّهُ يَجِيءُ بالنُّقْصَانِ والتَّمَام. فأَمَّا مِن بَنَاتِ الوَاوِ فلم يَجِئْ على التَّمَامِ إِلا حَرْفَانِ : مِسْكٌ مَدْوُوف ، وثَوبٌ مَصْوُون ، فإِنّ هذيْن جاءَا نادِرَيْنِ ، وفي النَّحْوِيِّين من يَقِيسُ على ذلِكَ فيَقُول : قولٌ مَقْوُولٌ ، وفرسٌ مَقْوُودٌ ، قِياساً مُطَّرِداً.
ومن المَجَازِ : أَخَذَ اللَّيْلُ في طَيِّ الرَّيْط ، وتَبَيَّنَ الخَيْطُ مِنَ الخَيْط ، يُعنَى بهمَا الخَيْط الأَبْيَض والخَيْط الأَسْوَد ، وفي التَّنْزِيلِ العَزِيزِ : (حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) الْخَيْطُ (الْأَبْيَضُ مِنَ) الْخَيْطِ (الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (١) وهُمَا بَيَاضُ الصُّبْحِ وسَوَادُ اللَّيْلِ. على التَّشْبِيه بالخَيْطِ لدِقَّتِه.
وفي حديث عَدِيِّ بنَ حاتِمٍ : «إِنَّك لعَرِيضُ القَفَا ، ليس المعَنى ذلِكَ ، ولكِنَّه بَيَاضُ الفَجْرِ من سَوادِ اللَّيْلِ» وفي النِّهَايَةِ : ولكِنَّهُ يُرِيد بَيَاضَ النَّهَارِ وظُلْمَةَ اللَّيْلِ ، وقال أُمَيَّةُ بنُ أَبِي الصَّلْتِ :
الخَيْطُ الَأبْيَضُ ضَوْء الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ |
|
والخَيْطُ الاسْوَدُ لَوْنُ اللَّيْلِ مَرْكُومُ |
وفي الصّحَاحِ : الخَيْطُ الأَسْوَدُ : الفَجْرُ المُسْتَطِيل ، ويُقَال : سَوَادُ اللَّيْل ، والخَيْط الأَبْيضُ : الفَجْرُ المُعْتَرِض ، قال أَبو دُوَادٍ الإِيادِيُّ :
فلمَّا أَضاءَتْ لنا سُدْفَةٌ |
|
ولَاحَ مِن الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنارَا |
قال أَبُو إِسْحَاقَ : هُمَا فَجْرَانِ ، أَحَدُهما يَبْدُو أَسْوَدَ مُعْتَرِضاً ، وهو الخَيْطُ الأَسْوَدُ ، والآخَرُ يَبْدُو طَالِعاً مُسْتَطِيلاً يَمْلأ الأُفُق ، وهو (٢) الخَيْطُ الأَبْيَضُ ، وحَقيقتُه : حَتَّى يَتَبَيَّن لكُم اللَّيْلُ من النَّهَارِ. وقيل : الخَيْطُ في البَيْتِ : اللَّوْنُ (٣) ، قال أَبو عُبَيْد : ويَدُلُّ له تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صلىاللهعليهوسلم إِيّاهُما بقوله : «إِنَّمَا هو سَوَادُ اللَّيْلِ وبَيَاضُ النَّهَارِ».
قلتُ : وكذا يَشْهَد له قولُ أُمَيَّةَ السَّابِقُ.
ومن المَجَاز : خَيَّطَ الشَّيْبُ رَأْسَه ، وفي رَأْسِهِ ولِحْيَتِه تَخْيِيطاً ، إِذا بَدَا فيه وظَهَر طَرَائِقَ ، مثلُ وَخَطَ أَو : صَارَ كالخُيُوطِ. وفي الأَسَاس : هو مثلُ نَوَّرَ الشَّجَرُ ووَرَّدَ ، فتَخَيَّطَ رَأْسُه بالشَّيْبِ ، قال بِدْرُ بنُ عامِرٍ الهُذَلِيّ :
تَاللهِ لا أَنْسَى مَنِيحَةَ وَاحِدٍ |
|
حَتَّى تَخَيَّطَ بالبَيَاضِ قُرُونِي (٤) |
هكَذَا في اللِّسَانِ. قلتُ : الرِّوَايَة : «أَقْسَمْت لا أَنْسَى» ، ويُرْوَى : تَوَخَّطَ. والقُرُونُ : جَوَانِبُ الرَّأْسِ ، ومَنِيحَة وَاحِدٍ ، يريد مَنِيحَة رَجُلٍ ، وفي العُبَابِ : يَعْنِي به أَبا العِيَالِ الهُذَلِيَّ. وقال ابنُ بَرِّيّ : قال ابنُ حَبِيب : إِذا اتَّصَل الشَّيْبُ في الرَّأْسِ فقد خَيَّطَ الرَّأْسَ الشَّيْبُ ، فجَعَل خَيَّطَ مُتَعَدِّياً قال : فتَكُونُ الرِّوَايَةُ على هذا :
حتى تُخَيَّطَ بالبَيَاضِ قُرُونِي (٥)
وجُعِلَ البَيَاضُ فيها كأَنَّهُ شَيْءٌ خِيطَ بَعضُه إِلى بَعْضٍ ، قال : وأَمّا من قال خَيَّطَ في رَأْسِهِ الشَّيْبُ ، بمعنَى : بَدَا ، فإِنَّه يُريدُ تُخَيِّطَ بكسرِ الياءِ أَي خَيَّطَتْ قُرُونِي وهي تُخَيِّط ، والمَعْنَى : أَن الشَّيْبَ صارَ في السَّوادِ كالخُيُوطِ ولم يَتَّصِلْ ؛ لأَنَّه لو اتَّصَلَ لكانَ نَسْجاً. قال : وقد رُوِيَ البَيْتُ بالوَجْهَيْنِ ، أَعْنِي تُخَيَّط ، بفَتْحِ الياءِ ، وتُخَيِّط ، بكسرها ، والخَاءُ مفتوحةٌ في الوَجهين.
وقال ابنُ عَبّادٍ : خَيْطُ بَاطِلٍ : الهَوَاءُ ، يُقَال : أَرَقُّ من خَيْطِ بَاطِلٍ ، هكَذا نَقَلَه الصّاغَانِيُّ ، وهو مَجَازٌ ، قال وأَنْشَدَ ابنُ فارِسٍ :
َدَرْتُمْ بعَمْرٍو يَا بَنِي خَيْطِ بَاطِلٍ |
|
ومِثْلُكُمُ يَبْنِي البُيُوتَ على عَمْرِو |
قلت : وهذا الَّذِي نَقَلَه الصّاغَانِيُّ عن ابن عَبّادٍ تَصْحيفٌ ، والَّذِي نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ وغيره عن أَحْمَدَ بنِ يَحْيَى يُقَال : فُلانٌ أَدَقُّ من خَيْطِ الباطلِ (٦) ، قال : وخَيْطُ البَاطِلِ هو الهَبَاءُ المَنْثُور الَّذِي يَدْخُلُ من الكُوَّةِ عند حَمْيِ الشَّمْسِ ، يُضْرَب مَثَلاً لِمَنْ يَهُون أَمْرُه. أَو ضَوْءُ يَدْخُلُ من
__________________
(١) سورة البقرة الآية ١٨٧.
(٢) في التهذيب : «فهو».
(٣) وهو قول أبي طالب كما في التهذيب.
(٤) ديوان الهذليين ٢ / ٢٦٠ وروايته «أقسمت لا أنسى» وعجزه في التهذيب ونسبه لأبي كبير.
(٥) وهي رواية ابن دريد كما في ديوان الهذليين.
(٦) في الأساس : خيطٍ باطلٍ. وفيها أنه الهباء المنبثّ في الشمس.