قال أَبو جَعْفَرٍ الفِهْريُّ : وليس فيه إِسنادٌ إِلى الفِعْلِ الذي هو تَسْمع ، كما ظَنَّه بعضُهم. وقال : قد جاءَ الإِسنادُ إِلى الفِعْل. واستَدلَّ على ذلك بهذا المَثَلِ. وبقوله تبارَكَ وتعالَى : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) (١) وقول الشاعر :
وحَقَّ لِمِثْلي يا بُثَيْنَةُ يَجْزَعُ
قال : فالفعْلُ في كُلّ هذا مبتدأٌ ، مسنَدٌ إِليه ، أَو مفعولٌ مسنَدٌ إِليه الفعل الذي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُه.
وما قاله هذا القائِلُ فاسِدٌ ، لأَن الفِعْلَ في كلامِهم إِنَّما وُضِعَ للإِخْبارِ بِه لا عنه. وما ذكرهَ يُمكِن أَن يُرَدَّ إِلى الأَصْلِ الّذِي هو الإِخبارُ عن الاسْمِ ، بأَن تُقَدَّر في الكلامِ أَن محذُوفَةً للعِلْم بها ، فتقديرُ ذلك كُلِّه : أَن تَسْمَعَ بالمُعِيدِيِّ خَيْرٌ من أَن تَرَاه. ومِن آيَاتِه أَن يُريَكُم البَرْقَ. وحَقَّ لِمِثْلِي أَن يَجْزَعَ. وأَنْ وما بعدَهَا في تَأْويل اسمٍ ، فيكون ذلك إِذا تُؤُوِّلَ على هذا الوَجْه ، من الإِخبارِ عن الاسمِ ، لا من الإِخبار عن الفِعْلِ. كذا في شرح شيخِنا.
قال أَبو جعفر : ورُوِيَ «مِن عَنْ تَرَاه» قاله الفرّاءُ في المصادر ، يعني أَنّه ورد بإِبدال الهمزةِ في أَنْ عيناً ، فقيل «عن» بدل «أَن» ، وهي لغةٌ مشهورةٌ ، كما جَزَمَ به الجماهِيرُ.
أَو المَثَلُ : «تَسْمَعُ بالمُعَيْديِّ لا أَنْ تَرَاهُ» بتجرِيدِ تَسمعُ ، من «أَنْ» مرفوعاً على القياسِ ، ومنصوباً على تَقديرها وإِثبات لا العاطِفةِ النافيةِ وأَنْ ، قبْلَ : تراه. وهي الرِّواية الثّانِية. وقد صحَّحها كثيرُون (٢).
ونقَل أَبو جَعفرٍ عن الفَرَّاءِ قال : وهي في بَني أَسَدٍ ، وهي التي يَختارُها الفصحاءُ.
وقال ابنُ هشامٍ اللَّخْمِيُّ : وأَكثرُهم يقول : لا أَنْ تراه.
وكذلك قاله ابن السِّكِّيت.
قال الفَرَّاءُ : وقَيْسٌ تقول : «لأَنْ تَسمعَ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أَن تَراه» وهكذا في «الفصيح».
قال التّدْمريُّ فاللّام هنا لامُ الابتداءِ ، وأَن مع الفِعْلِ بتأْوِيلِ المصدر ، في موضعِ رَفْعٍ بالابتداءِ. والتقديرُ : لسَمَاعُكَ بالمُعيدِيِّ خيرٌ من رُؤيَتِهِ فسَمَاعُكَ : مبتدأٌ.
وخيرٌ : خَبَرٌ عنه. وأَن تراه : في موضعِ خَفْضٍ بِمِنْ. قال : وفي الخَبَرِ ضميرٌ يعُود على المصدرِ الذي دَلَّ عليه الفِعْلُ ، وهو المبتدأٌ ، كما قالوا : مَن كَذَب كَان شَراًّ له.
يُضْرَبُ فيمَنْ شُهِرَ وذُكِرَ وله صِيتٌ في الناس وتُزْدَرَى مَرْآتُهُ ، أَي يُسْتَقْبَحُ مَنْظَرُه لِدَمَامَتِهِ وحقَارَتِهِ. أَو تأْوِيلُهُ أَمْرٌ ، قال ابنُ السِّكِّيت ، أَي اسْمَعْ به ولا تَرَهُ.
وهذا المَثَلُ أَوردَهُ أَهلُ الأَمثال قاطِبَةً : أَبو عُبَيْدٍ أَوَّلاً.
والمُتَأخِّرُون كالزَّمَخْشَرِيِّ ، والمَيْدانِي. وأَورده أَبو العَبّاسِ ثَعْلَبٌ في «الفَصِيح» بروايَتَيْهِ. وبَسطه شُرَّاحُه. وزادوا فيه.
قال سيِبيوْيه : يُضْرَب المَثَلُ لمن تَراه حَقِيراً ، وقَدْرُه خَطِيرٌ. وخَبَرُه أَجَلُّ مِن خُبْرِه.
وأَوّلُ مَن قَالَه النُّعْمَانُ بن المُنذِرُ أَو المُنذِرِ بنُ ماءِ السماءِ.
والمُعَيْديُّ رجُلٌ من بني فِهْرٍ ، أَو كِنانةَ ، واختُلِفَ في اسمِهِ : هل هو صَقْعَب (٣) بن عَمْرٍو ، أَو شِقَّة بن ضَمْرةَ ، أَو ضَمْرَة التَّمِيمِيّ ، وكان صَغِيرَ الجُثَّةِ ، عَظِيم الهَيْئةِ. ولَمَّا قِيل له ذلك ، قال : أَبَيْتَ اللَّعْنَ ، إِنَّ الرجالَ (٤) ليسُوا بجُزُرٍ ، يُرَادُ (٥) بها الأَجسام ، وإِنَّما المرءُ بأَصْغَرَيْهِ. ومثله قال ابن التّيانيّ تبعاً لصاحب «العَيْن» وأَبو عُبَيْدٍ عن ابن الكَلْبِيِّ والمفضَّل. وفي بعضِها زيادات على بعض.
وفي رواية المفضَّل : فقال له شِقَّة : أَبيتَ اللَّعن : إِنَّمَا (٦) المرءُ بِأَصْغَرَيْهِ : لسانِهِ وقَلْبِهِ ، إِذا نَطَق نَطَق ببَيَان ، وإِذا قاتَلَ قاتل بِجَنان. فعَظُم في عَيْنِه ، وأَجزل عَطِيَّتَه. وسَمَّاه باسمِ أَبِيه ، فقال له : أَنتَ ضَمْرةُ بنُ ضَمْرَةَ. وأَورده العلَّامة أَبو عليٍّ اليوسيّ في «زَهر الأَكم» بأَبْسَطَ من هذا ، وأَوضَحَ الكلامَ فيه. وفيه : أَن هذا المثلَ أَولَ ما قِيلَ ، لخَيْثَم (٧) بنِ
__________________
(١) سورة الروم الآية ٢٤.
(٢) وهي رواية الفاخر للمفضل.
(٣) بالأصل «صعقب» وما أثبت عن الاشتقاق. وقد صححت في كل مواضع الخبر.
(٤) في الفاخر والميداني : إِن القوم.
(٥) الفاخر والميداني : يعني الشاء.
(٦) الفاخر والميداني : إِنما يعيش الرجل بأصغريه.
(٧) عن الاشتقاق ص ٥٤٨ وبالأصل «لجشم».