فقال جَرِيرٌ :
أَقُولُ ولَمْ أَمْلِكْ سَوابِقَ عَبْرَةٍ |
مَتى كانَ حُكْمُ اللهِ في كَرَبِ النَّخْلِ |
انتهى. قال ابْنُ بَرِّيّ : ليس هذا الشَّاهِدُ الّذِي ذَكرهُ الجَوْهَرِيّ مَثَلاً ، وإِنّما هو عَجُزُ بَيْتٍ لِجَرِيرٍ ، فذكره ، قال ذلك لَمَّا بَلَغَهُ أَنّ الصَّلَتانَ العَبْدِيَّ فَضّلَ الفَرَزْدَقَ عليه في النَّسَب (١) ، وفَضَّل جَرِيراً عليه في جَوْدَة الشِّعْر ، في قوله :
«أَيا شاعراً ...»
إِلى آخره ، فلم يرْضَ جَرِيرٌ قولَ الصَّلَتانِ ، ونُصْرَتَهُ الفَرزْدَق.
قال ابْنُ مَنْظُور : قلتُ هذه مُشاحَّةٌ من ابنِ بَرِّيّ للجَوْهَرِيّ في قوله : «ليس هذا الشّاهد مثلا ، وإِنّما هو عَجُزُ بيتٍ لجَرير» ، والأَمثالُ قد وردت شِعْراً وغيرَ شعرٍ ، وما يكون شِعراً لا يمتنع أَن يكونَ مثلاً. انتهى.
وللشّيخ عليّ المَقْدِسيّ هُنا في حاشيته كلامٌ يقرُبُ من كلام ابْن منظور ، بل هو مأْخوذٌ منه ، نقله شيخُنا ، وكفانا مُؤْنَةَ الرَّدِّ عليه.
والكَرَبُ : الحَبْلُ الّذي يُشَدُّ على الدَلْوِ بعد المَنِينِ ، وهو الجبلُ الأَوّلُ ، فإِذا انقطع المَنِينُ ، بَقِيَ الكَرَبُ. وقال ابْنُ سِيدَهْ : الكَرَبُ : الحبْلُ الّذِي يُشَدُّ في وَسَطِ ، وفي أُخْرَى : على وَسَطِ العَرَامِيّ ، أَي : عَرَاقِي الدَّلْوِ ، ثُمّ يُثْنَى ، ثُمّ يُثَلَّثُ لِيَلِيَ. في الصَّحاح : لِيكونَ هو الّذي يَلِي الماءَ ، فلا يَعْفَنُ الحَبْلُ الكَبِيرُ ، والجَمْعُ أَكْرَابٌ (٢).
قال ابنُ منظورٍ : رأَيتُ في حاشيةِ نُسْخَةٍ من الصَّحاح الموثوقِ بها قولَ الجوهريّ : «لِيكونَ هو الّذي يَلِيَ الماءَ ، فلا يَعْفَنُ الحبلُ الكَبِيرُ ، إِنّما هو من صِفَةِ الدَّرَك لا الكرب».
قلت (٣) : الدّليل على صحّة هذه الحاشية أَنَّ الجوهريّ ذكر في ترجمة درك هذه الصُّورة أَيضاً. فقال : والدَّرَكُ : قطعة حَبْلٍ ، يُشَدُّ في طَرَفِ الرِّشَاءِ إِلى عَرْقُوَة الدَّلْو ، ليكون هو الّذي يلِي الماءَ ، فلا يَعْفَنُ الرِّشاءُ. وسنذكره في موضعه.
قلتُ : ومِثْلُه في كِفاية المُتَحَفِّظ وكلامُ المُصَنِّفِ في الدَّرَك ، قريبٌ من كلام الجوهريّ في كونِ كِلَيْهِما بمعنًى.
وقال الحُطَيْئَةُ :
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجارِهِمُ |
شَدُّوا العِنَاجَ وشَدُّوا فَوْقَهُ الكَرَبا(٤) |
وأَوّلُه :
سِيرِي أَمامِي فإِنّ الأَكْثَرِينَ حَصًى |
والأَكْرَمِينَ إِذا ما يُنْسَبُونَ أَبَا |
وآخِرُهُ :
أُولَئكَ الأَنْفُ والأَذْنَابُ غَيْرُهُمُ |
وَمَنْ يُسَاوِي بأَنْفِ النّاقَةِ الذَّنَبَا |
وأَنشدني غيرُ واحدٍ من شيوخنا قول العبّاس بْن عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ :
مَنْ يُساجلْنِي يُساجِلْ ماجِداً |
يَمْلأُ الدَّلْوَ إِلى عَقْدِ الكَرَبْ(٥) |
وقد كَرَبَ الدَّلْوَ ، يَكْرُبُها ، كَرْباً وأَكْرَبَها ، فهي مُكْرَبَةٌ ؛ وكَرَّبَها ، بالتّشدِيد. قال امْرُؤُ القيس :
كالدَّلْوِ بُتَّتْ عُرَاهَا وَهْيَ مُثْقَلَةٌ |
وخَانَها وَذَمٌ مِنْها وَتَكْرِيبُ |
ومثلُهُ في هامش الصِّحاح. زادَ ابنُ منظورٍ : على أَنّ التَّكْرِيب قد يجوزُ أَن يكونَ هنا اسْماً ، كالتَّنْبِيت (٦) والتَّمْتِينِ وذلك لِعَطْفِها على الوَذَم الّذي هو اسْمٌ ، لكنَّ البابَ الأَوّلَ أَوسعُ وأَشيعُ.
__________________
(١) اللسان : النسيب.
(٢) وفي المجمل والمقاييس : الكرب عقد غليظ في رشاء الدلو يجعل طرفه في عرقوة الدلو ثم يشد ثنايته رباطاً وثيقاً.
(٣) القائل ابن منظور ، تتمة كلامه في اللسان.
(٤) بهامش المطبوعة المصرية : «قوله العناج ، قال الجوهري : والعناج في الدلو العظيمة حبل أو بطان يشد في أسفلها ثم يشد إلى العراقي فيكون لها عونا وللوذم ، فإذا انقطعت الأوذام أمسكها العناج فإذا كانت الدلو خفيفة فعناجها خيط يشد في إحدى آذانها إلى العرقوة ا ه وأنشد هذا البيت».
(٥) البيت في اللسان (سجل) ونسبه إلى الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب.
(٦) عن اللسان ، وبالأصل «كالتثبيت» وبهامش المطبوعة المصرية : «قوله كالتثبيت كذا بخطه».