يبق للجهل ذاهبة ولا جائية ، وتمّ بدره فأذهب دياجير الظلمات بأنوار علمه الساطعة الحامية ، خاض في بحار العلوم فأخرج منها درّا ومرجانا ، وسبح في دأماء (١) الفنون فاستنبط منها وسيلا (٢) وبرهانا ، أعظم الأفاضل شأنا وأنورهم برهانا.
كان له تحرير فائق ، وتعبير عن المطالب رائق ، وإحاطة تامة في أنواع العلوم ، وحياطة شاملة لأجناس المعقول والمفهوم ، وتحقيقات متينة لغوامض الدقائق ، وتدقيقات رزينة في اكتناه الحقائق ، له رحمهالله من كلّ فن سهام عالية ، وله من كلّ غصن ثمار يانعة ، قد حقّق كلّ مسألة من مسائل العلوم بما لا مزيد عليه ، واستنبط في مقالة الحق بحيث يظهر لكلّ أحد ماله وما عليه.
وبالجملة لا مماثل له ولا معادل ، ومن أراد أن يصف فضله بكنهه فهو عن الحق عادل.
كان رحمهالله في أوائل أمره معتزلا عن المناصب ، وكان منتهى مطلبه تحقيق المآرب ، فجاءه القضاء بولاية القضاء ، فولاّه برضاء كان أو عدم رضاء ، فباشره مراعيا للكتاب والسنّة ، والطرق المرويّة عن أئمة الأمة ، فأتعب نفسه وراضها كمال الرياضة ، وجاهدها لله غايته ، غير مكترث عن عروض المضاضة. وبالجملة بالغ في إبطال الباطل وإحقاق الحق ، بحيث يرضى عنه مزهق الباطل ومحقّ الحق.
روي أنّه ـ رحمهالله ـ لمّا أراد سفر الحج ذهب إلى الجامع ورقي إلى ذروة المنبر ، وكان من جملة ما تكلّم به : أيّها الناس! من حكمت ( على أحد ) (٣) ولا يرضى مني فلا يرضى ، فإنّي ما حكمت بشيء إلاّ وقد قطعت عليه وعلمت يقينا
__________________
(١) في الحجرية والأصل : وسبح في دماء. وفي المصدر : وسبح في وعاء. ولا معنى لهما ، والصحيح المثبت ، ومعناه : سبح في بحار الفنون.
(٢) أي : وسيلة.
(٣) كذا ، ولعلّها ـ كما استظهرها المصنّف قدسسره ـ : عليه.