النظرُ فيما تَعَرَّفَ به الآنَ ، فَلَنْ يخلُو من أحَدِ وجوه التعريف الخمسة ، إِمّا لأنّه من الأسماء المضمَرة ، أو من الأسماءِ الأعلامِ ، أو من الأسماء المُبهَمة ، أو مِنَ الأسماء المُضَافةِ ، أو من الأَسماءِ المُعرَّفَة باللام ، فمحالٌ أن يكونَ مِنَ الأسماءِ المُضْمرة ؛ لأنّها معروفةٌ محدودةٌ ، وليستِ « الآن » كذلكَ ، ومُحَالٌ أَنْ تكونَ من الأسماءِ الأعلام ؛ لأن تلكَ تَخُصُّ الواحِدَ بعينه ، والآنَ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وقتٍ حاضرٍ ، لا يَخُصُّ بعضَ ذلكَ دونَ بعضٍ ، ولم يَقُلْ أحدٌ أَنَ الآنَ من الأسماءِ الأعلامِ ، ومُحَالٌ أيضًا أَنْ تكونَ من أسماءِ الإشارَةِ ؛ لأَنَّ جميعَ أسماءِ الإشارة لا تَجدُ فى واحدٍ منها لامَ التَّعْرِيفِ ، وذلك نَحوُ : هذا ، وهذه ، وذاكَ وتلكَ ، وهَؤُلاءِ وما أشبَهَ ذلكَ. وذهبَ أبُو إسحاقَ إلى أَنَ الآنَ إنّما تَعَرُّفُهُ بالإشارة ، وَأَنّه إِنَّما بُنىَ لما كانت الألف واللام فيه لغير عهدٍ متقدم ، إنما تقول : الآن كان كذا وكذا ، لمن لم يتقدم لك معه ذكر الوقت الحاضر ، فأما فساد كونه من أسماء الإشارة ، فقد تقدم ، وأما ما اعتلَّ به من أنه إنما بُنِىَ لأَنَّ الألفَ واللامَ فيه لغير عَهْدٍ متقدِّمٍ ، ففاسدٌ أيضًا ؛ لأَنّا قد نجدُ الألفَ واللامَ فى كَثِيرٍ من الأسماءِ على غير تقدُّمِ عَهْدٍ ، وتلك الأسماءُ مَعَ كونِ اللامِ فيها مَعَارِفُ ، وذلك قولكَ : يأيُّها الرجلُ ، ونَظَرْتُ إلى هذا الغلامِ ، فقد بطل بِمَا ذكرْنَا ، أَنْ تكونَ « الآنَ » مِنَ الأسماءِ المشارِ بها ، ومحالٌ أيضًا أَنْ يكونَ منَ الأسماءِ المُتَعَرِّفة بالإضافَة ؛ لأَنَّا لا نجدُ بعده اسمًا هو مُضافٌ إِليهِ ، فإذا بطلتْ واستحالتِ الأوجُهُ الأَربعَةُ المقَدَّمُ ذِكرُهَا ، لم يبقَ إِلا أَنْ يكونَ مُعَرَّفًا باللامِ نَحوُ : الرجلِ والغلامِ ، وقد دلتْ الدلالَةُ عَلَى أَنّ « الآنَ » لَيْسَ مُعَرَّفًا باللامِ الظاهرةِ الّتى فيهِ لأنّهُ لَو كانَ مُعَرَّفًا بها لَجَاز سقوطُهَا منه ، فلزومُ هذهِ اللامِ للآنِ دَليلٌ عَلَى أَنّها ليستْ للتَعرِيف ، وإِذا كان معرّفًا باللامِ لا محالةَ ، واستحالَ أَنْ تكونَ اللامُ فيه هى التى عرّفتْه وَجَبَ أَنْ يكونَ معرّفًا بلامٍ أُخرى مَحذوفةٍ غيرِ هذه الظاهرة الّتى فيه ، بمنزِلَة أَمْسِ فى أَنّهُ تَعرّفَ بلامٍ مُرَادةٍ والقولُ فيهما واحِدٌ ؛ ولذلك بُنِيَا لتضمُّنِهمَا معنى حرفِ التَّعرِيف. قال ابنُ جنىٍّ : وهذا رَأْىُ أبى علىٍّ ، رَحمَهُ اللهُ ، وعنه أَخَذْتُهُ ، وهو الصوابُ. قال سيبويه : وقالوا : الآنَ آنُكَ. كذا قرأْناهُ فى كتابِ سيبويه بنصبِ الآنَ. ورفع آنُكَ ، وكذلكَ : الآنَ حَدُّ الزمَانَينِ. هكذا قرأْناهُ أيضًا بالنصب. وقال ابنُ جنىٍّ : اللامُ فى قَولهم : الآنَ حَدُّ الزمَانَينِ بمنزلَتها فى قولك : الرجلُ أَفضلُ مِنَ المرأَةِ ؛ أى : هذا الجنسُ أَفضلُ مِنْ هذا الجنس ، فكذلكَ الآنَ إذا رَفَعَهُ جَعَلَهُ جِنسَ هذا المستعملِ فى قولهم : كنتُ الآنَ عنده ؛ فمعنى هذا : كنتُ فى هذا الوقت الحاضرِ بعضُهُ ، وقد تَصَرّمتْ أَجزاءٌ منه عندهُ ، وبُنِيَتِ الآنَ لتضمُّنِها معنى الحرف.