قلتَ : كان تقديره مَنُونَ كالقول الأول ، ثم قال : أنتم ، أى : أنتم المقصودون بهذا الاستثبات ، كقول عَدِىٍّ :
أَرَوَاحٌ مُوَدِعٌ أَمْ بُكُورٌ |
|
أَنْتَ فَانْظُرْ لأَىِّ ذَاكَ تَصيِرُ(١) |
إذا أردت : أنْتَ الهالِكُ ، وكذلك أراد لأَىِّ ذَيْنِكَ ، وقولهم فى جواب مَنْ قال : رأيت زيدًا المَنِىَّ يا هذا ، فالَمِنىُّ : صفة غير مفيدة ؛ وإنما معناه الإضافة إلى مَنْ لا يخص بذلك قبيلة معروفة ، كما أن مَنْ لا تخص عَيْنًا ، وكذلك تقول المَنِيَّانِ والمَنِيُّونَ والمَنِيَّةُ والمَنِيَّتَانِ والمَنِيَّاتُ ، فإذا وَصَلْتَ أفردْتَ على ما بينه سيبويه.
وتكون للاستفهام الذى فيه معنى التعجب ، نحو ما حكاه سيبويه من قول العرب : سبحان الله مَنْ هو وما هو ، وأما قوله :
*جَادَتْ بِكفَّىْ كَانَ مَنْ أَرْمَى الْبَشَرْ* (٢)
فقد رُوى مَنْ أَرْمَى البَشَرْ ، بفتح ميم مَنْ ، أى : بكفىَ مَنْ هو أرمى البشر ، « وكان » على هذا زائدة ، ولو لم تكن فيه هذه الرواية لما جاز القياس عليه لفروده وشذوذه عمّا عليه عَقْدُ هذا الموضع ، ألا ترى أنك لا تقول مررت بوَجْهُهُ حَسَنٌ ، ولا نَظَرْتُ إلى غُلامُهُ سَعِيدٌ؟
هذا قول ابن جنى. وروايتنا : كان مِنْ أرْمَى البَشَر ؛ أى بكَفَّىْ رجُلٍ كان مِنْ. وهو أيضًا اسم مُغْنٍ عن التكثير ، وذلك أنك إذا قلت : مَنْ عندك ، أغناك ذلك عن ذكر الناس.
* ومِنْ : تكون لابتداء الغاية فى الأماكن ، وذلك قوله : مِنْ مكان كذا وكذا إلى مكان كذا وكذا ، وتقول إذا كتبت كتابًا : من فلان إلى فلان (٣) ، فهذه الأسماء التى هى سوى الأماكن بمنزلتها. وتكون أيضًا للتبعيض ، تقول : هذا من الثوب ، وهذا منهم ، كأنك قلت : بعضه أو بعضهم ؛ وتكون للجنس ، وقوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [النساء : ٤] إن قال قائل كيف يجوز أن يقبل الرجل المهر كله ؛ وإنما قال منه؟ فالجواب فى ذلك ؛ أن مِنْ هاهنا للجنس كما قال : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ولم نؤمر باجتناب بعض الأوثان ؛ ولكن المعنى : اجتنبوا الرِّجْسَ الذى هو وثن ، وكلوا الشىءَ الذى هو مهرٌ ، وكذلك قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً
__________________
(١) البيت لعدى بن زيد فى ديوانه ص ٨٤ والأغانى ٢ / ١٢٦ ، والكتاب ١ / ١٤٠ ، ولسان العرب (منن) ، والخصائص ١ / ١٣٢.
(٢) الرجز بلا نسبة فى الإنصاف ١ / ١١٤ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٠١ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٦١ ، ولسان العرب (كون) ، (منن).
(٣) « فلان » : سقطت من المخطوط وأثبتناها من اللسان ٦ / ٤٢٨١.