قوله تعالى : « قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ » الإنشاء إحداث الشيء ابتداء وتربيته.
ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله : « قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ » وقد تكرر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون (١) والم السجدة (٢) يدل على أن إنشاءه تعالى الإنسان وتجهيزه بجهاز الحس والفكر من أعظم نعمه تعالى التي لا يقدر قدرها.
وليس المراد بإنشائه مجرد خلقه كيفما كان بل خلقه وإحداثه من دون سابقه في مادته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طورا بعد طور : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ـ إلى أن قال ـ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » المؤمنون : ١٤ ، فصيرورة المضغة إنسانا سميعا بصيرا متفكرا بتركيب النفس الإنسانية عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على مادة الإنسان من أخذها من الأرض ثم جعلها نطفة ثم علقة ثم مضغة فإنما هي أطوار مادية متعاقبة بخلاف صيرورتها إنسانا ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الإنشاء.
ومثله قوله : « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ » الروم : ٢٠ ( انظر إلى موضع إذا الفجائية ).
فقوله : « هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ » إشارة إلى خلق الإنسان.
وقوله : « وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ » إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحس والفكر ، والجعل إنشائي كجعل نفس الإنسان كما يشير إليه قوله : « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ » المؤمنون : ٧٨.
فالإنسان بخصوصية إنشائه وكونه بحيث يسمع ويبصر يمتاز من الجماد والنبات ـ والاقتصار بالسمع والبصر من سائر الحواس كاللمس والذوق والشم لكونهما العمدة ولا يبعد أن يكون المراد بالسمع والبصر مطلق الحواس الظاهرة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ـ وبالفؤاد وهو النفس المتفكرة يمتاز من سائر الحيوان.
__________________
(١) الآية ٧٨.
(٢) الآية ٩