وهذان أعني قولهم إن من الجن من يأتيه ، وقولهم إنه شاعر ، مما كانوا يكررونه في ألسنتهم بمكة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقة ، وهذا مما يؤيد نزول هذه الآيات بمكة خلافا لما قيل إنها نزلت بالمدينة.
على أن الآيات مشتملة على ختام السورة أعني قوله : « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » ولا معنى لبقاء سورة هي من أقدم السور المكية سنين على نعت النقص ثم تمامها بالمدينة ، ولا دلالة في الاستثناء على أن المستثنين هم شعراء المؤمنين بعد الهجرة.
وكيف كان فالغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع فالرشيد هو الذي لا يهتم إلا بما هو حق واقع والغوي هو السالك سبيل الباطل والمخطئ طريق الحق ، والغواية مما يختص به صناعة الشعر المبنية على التخييل وتصوير غير الواقع في صورة الواقع ولذلك لا يهتم به إلا الغوي المشعوف بالتزيينات الخيالية والتصويرات الوهمية الملهية عن الحق الصارفة عن الرشد ، ولا يتبع الشعراء الذين يبتني صناعتهم على الغي والغواية إلا الغاوون وذلك قوله تعالى : « وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ».
وقوله : « أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ » يقال : هام يهيم هيمانا إذا ذهب على وجهه والمراد بهيمانهم في كل واد استرسالهم في القول من غير أن يقفوا على حد فربما مدحوا الباطل المذموم كما يمدح الحق المحمود وربما هجوا الجميل كما يهجى القبيح الدميم وربما دعوا إلى الباطل وصرفوا عن الحق وفي ذلك انحراف عن سبيل الفطرة الإنسانية المبنية على الرشد الداعية إلى الحق ، وكذا قولهم ما لا يفعلون من العدول عن صراط الفطرة.
وملخص حجة الآيات الثلاث أنه صلىاللهعليهوآله ليس بشاعر لأن الشعراء يتبعهم الغاوون لابتناء صناعتهم على الغواية وخلاف الرشد لكن الذين يتبعونه إنما يتبعونه ابتغاء للرشد وإصابة الواقع وطلبا للحق لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة على الحق والرشد دون الباطل والغي.
قوله تعالى : « إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً » إلخ ، استثناء من الشعراء المذمومين ، والمستثنون هم شعراء المؤمنين فإن الإيمان وصالحات الأعمال تردع الإنسان بالطبع عن ترك الحق واتباع الباطل ثم الذكر الكثير لله سبحانه