فالظاهر أن الآية والآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه ، وإحباط أعمالهم فيه ، وحال أهل الجنة التي فيه.
قوله تعالى : « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً » قال الراغب في المفردات : ، العمل كل فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات ، والعمل قلما ينسب إلى ذلك ، ولم يستعمل العمل في الحيوانات إلا في قولهم : البقر العوامل. انتهى.
وقال : الهباء دقاق التراب وما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة. انتهى. والنثر التفريق.
والمعنى : وأقبلنا إلى كل عمل عملوه ـ والعمل هو الذي يعيش به الإنسان بعد الموت ـ ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور ، والكلام مبني على التمثيل مثل به استيلاء القهر الإلهي على جميع أعمالهم التي عملوها لسعادة الحياة وإبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخرب الدار وهدم الآثار وأحرق المتاع والأثاث فأفنى منه كل عين وأثر.
ولا منافاة بين ما تدل عليه الآية من حبط الأعمال يومئذ وبين ما تدل عليه آيات أخر أن أعمالهم أحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم وإجرامهم فإن معنى الإحباط بعد الموت ظهور الحبط لهم بعد ما كان خفيا في الدنيا عليهم وقد تقدم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع.
قوله تعالى : « أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً » المراد بأصحاب الجنة المتقون فقد تقدم قوله قبل آيات : « قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ » ، والمستقر والمقيل اسما مكان من الاستقرار ومعناه ظاهر ومن القيلولة وهي الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا ـ على ما قيل ـ والجنة لا نوم فيه.
وكلمتا « خَيْرٌ » و « أَحْسَنُ » منسلخان عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى : « وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » الروم : ٢٧ ، وقوله : « ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ » الجمعة : ١١ كذا قيل ، وليس يبعد أن يقال : إن « أفعل » أو ما هو في معناه كخير بناء على ما