وقوله : ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي أكثر هؤلاء المشركين الذين يتهمونك بقولهم : ( إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ) لا يعلمون حقيقة هذا التبديل والحكمة المؤدية إليه على ما سينكشف في الجواب أن الأحكام الإلهية تابعة لمصالح العباد ومن المصالح ما يتغير بتغير الأوضاع والأحوال والأزمنة فمن الواجب أن يتغير الحكم بتغير مصلحته فينسخ الحكم الذي ارتفعت مصلحته الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته.
فأكثر هؤلاء غافلون عن هذا الأمر وأما الأقل منهم فهم واقفون على حقيقة الأمر ولو إجمالا غير أنهم مستكبرون على الحق معاندون له وإنما يلقون القول إلقاء من غير رعاية جانب الحق.
قوله تعالى : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) قد تقدمت في أول السورة إشارة إلى معنى الروح ، والقدس الطهارة والنزاهة والظاهر أن الإضافة للاختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادة نزيهة عن الخطإ والغلط والضلال ، وهو المسمى في موضع آخر من كلامه تعالى بالروح الأمين ، وفي موضع آخر بجبريل من الملائكة قال تعالى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ ) الشعراء : ١٩٤ ، وقال : ( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ) البقرة : ٩٧.
فقوله : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) أمر بالجواب والأسبق إلى الذهن أن يكون الضمير راجعا إلى القرآن من جهة كونه ناسخا أي الآية الناسخة ، ويمكن أن يكون راجعا إلى مطلق القرآن ، وفي التعبير بالتنزيل دون الإنزال إشارة إلى التدريج.
وكان من طبع الكلام أن يقال : من ربي لكن عدل عنه إلى قوله : ( مِنْ رَبِّكَ ) للدلالة على كمال العناية والرحمة في حقه صلىاللهعليهوآله كأنه لا يرضى بانقطاع خطابه فيغتنم الفرصة لتكليمه أينما أمكن ، وليدل على أن المراد بالقول المأمور به إخبارهم بذلك لا مجرد التلفظ بهذه الألفاظ فافهم.
وقوله : ( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ) التثبيت تحكيم الثبات وتأكيده بإلقاء الثبات بعد الثبات عليهم كأنهم بأصل إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر ثبتوا على الحق وبتجدد الحكم حسب تجدد المصلحة يؤتون ثباتا على ثبات من غير أن يضعف ثباتهم الأول بالمضي