الاستخفاء والتخفي وهو مأخوذ من الوراء ، والهون الذلة والخزي ، والدس الإخفاء.
والمعنى : يستخفي هذا المبشر بالبنت من القوم من سوء ما بشر به على عقيدته ويتفكر في أمره : أيمسك ما بشر به وهي البنت على ذلة من إمساكه وحفظه أم يخفيه في التراب كما كان ذلك عادتهم في المواليد من البنات كما قيل : إن أحدهم كان يحفر حفيرة صغيرة فإذا كان المولود أنثى جعلها في الحفيرة وحثا عليها التراب حتى تموت تحته وكانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الأكفاء فيهن.
وأول ما بدا لهم ذلك أن بني تميم غزوا كسرى فهزمهم وسبى نساءهم وذراريهم فأدخلهن دار الملك واتخذ البنات جواري وسرايا ثم اصطلحوا بعد برهة واستردوا السبايا فخيرن في الرجوع إلى أهلهن فامتنعت عدة من البنات فأغضب ذلك رجال بني تميم فعزموا لا تولد لهم أنثى إلا وأدوها ودفنوها حية ثم تبعهم في ذلك بعض من دونهم فشاع بينهم وأد البنات.
وقوله : ( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) هو حكمهم أن له البنات ولهم البنون لا لهوان البنات وكرامة البنين في نفس الأمر بل معنى هذا الحكم عندهم أن يكون لله ما يكرهون ولهم ما يحبون ، وقيل : المراد بالحكم حكمهم بوجوب وأد البنات وكون إمساكهن هونا ، وأول الوجهين أوفق وأنسب للآية التالية.
قوله تعالى : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المثل هو الصفة ومنه سمي المثل السائر مثلا لأنه صفة تسير في الألسن وتجري في كل موضع تناسبه وتشابهه.
والسوء ـ بالفتح والسكون ـ مصدر ساء يسوء كما أن السوء بالضم اسمه وإضافة المثل إلى السوء تفيد التنويع فإن الأشياء إنما توصف إما من جهة حسنها وإما من جهة سوئها وقبحها فالمثل مثلان : مثل الحسن ومثل السوء.
والحسن والقبح ربما كانا من جهة الخلقة لا صنع للإنسان ولا مدخل لاختياره فيهما كحسن الوجه ودمامة الخلقة ، وربما لحقا من جهة الأعمال الاختيارية كحسن العدل وقبح الظلم ، وإنما يحمد ويذم العقل ما كان من القسم الثاني دون القسم الأول فيدور الحمد والذم بحسب الحقيقة مدار العمل بما تستحسنه وتأمر به الفطرة الإنسانية