وتعقيب الشيء إنما يكون بالمجيء بعده والإتيان من عقبه فتوصيف المعقبات بقوله : « مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ » إنما يتصور إذا كان سائرا في طريق ، ثم طاف عليه المعقبات حوله وقد أخبر سبحانه عن كون الإنسان سائرا هذا السير بقوله : « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ » : الانشقاق : ٦ وفي معناه سائر الآيات الدالة على رجوعه إلى ربه كقوله : « وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » : يس : ٨٣ « وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ » : العنكبوت : ٢١ فللإنسان وهو سائر إلى ربه معقبات تراقبه من بين يديه ومن خلفه.
ثم من المعلوم من مشرب القرآن أن الإنسان ليس هو هذا الهيكل الجسماني والبدن المادي فحسب بل هو موجود تركب من نفس وبدن والعمدة فيما يرجع إليه من الشئون هي نفسه فلها الشعور والإرادة وإليها يتوجه الأمر والنهي وبها يقوم الثواب والعقاب والراحة والألم والسعادة والشقاء ، وعنها يصدر صالح الأعمال وطالحها ، وإليها ينسب الإيمان والكفر وإن كان البدن كالآلة التي يتوسل بها في مقاصدها ومآربها.
وعلى هذا يتسع معنى ما بين يدي الإنسان وما خلفه فيعم الأمور الجسمانية والروحية جميعا فجميع الأجسام والجسمانيات التي تحيط بجسم الإنسان مدى حياته بعضها واقعة أمامه وبين يديه وبعضها واقعة خلفه ، وكذلك جميع المراحل النفسانية التي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربه والحالات الروحية التي يعتورها ويتقلب فيها من قرب وبعد وغير ذلك والسعادة والشقاء والأعمال الصالحة والطالحة وما ادخر لها من الثواب والعقاب كل ذلك واقعة خلف الإنسان أو بين يديه ولهذه المعقبات التي ذكرها الله سبحانه شأن فيها بما أن لها تعلقا بالإنسان.
والإنسان الذي وصفه الله بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لا يقدر على حفظ شيء من نفسه ولا آثار نفسه الحاضرة عنده والغائبة عنه ، وإنما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى : « اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ » : الشورى : ٦ وقال : « وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ » : السبأ : ٢١ وقال يذكر الوسائط في هذا الأمر « وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ » : الانفطار : ١٠.
فلو لا حفظه تعالى إياها بهذه الوسائط التي سماها حافظين تارة ومعقبات أخرى لشمله الفناء من جهاتها وأسرع إليها الهلاك من بين أيديها ومن خلفها غير أنه كما أن حفظها بأمر من الله عز شأنه كذلك فناؤها وهلاكها وفسادها بأمر من الله لأن الملك لله لا يدبر أمره ولا