بمثل قوله : « لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ. بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ».
وذلك أن الإنسان مفطور على حب النعم الحيوية التي تتم بها حياته لا بغية له دونها ولا يريد في الحقيقة شيئا ولا يقصده إلا لينتفع به في نفسه وما ربما يلوح أنه يريد نفعا عائدا إلى غيره فالتأمل الدقيق يكشف عن اشتماله على نفع عائد إليه نفسه ، وإذ كان يحب الوجدان فهو يبغض الفقدان.
وبهذين الوصفين الغريزيين أعني الحب والبغض يتم له أمر الحياة ولو أنه أحب كل شيء ومنها الأضداد والمتناقضات لبطلت الحياة ولو أنه أبغض كل شيء حتى المتنافيات لبطلت الحياة ، وقد فطره الله سبحانه على الحياة الاجتماعية ؛ لقصور ما عنده من القوى والأدوات عن القيام بجميع ما يحتاج إليه من ضروريات حياته ومن الضروري أن الاجتماع لا يتم إلا باختصاص كل فرد بما يحرم عنه آخرون من مال أو جاه أو زينة أو جمال أو كل ما يتنافس فيه الطباع الإنساني أو يتعلق به الهوى النفساني على اختلاف فيه بالزيادة والنقيصة.
وهذا أول ما يودع أنواع العداوة والبغضاء في القلوب والشح في النفوس ثم ما ينبسط بينهم من وجوه الحرمان بالظلم والعدوان وبغي البعض على البعض في دم أو عرض أو مال أو غير ذلك مما يتنعمون به ويتنافسون فيه ويعلمون لأجله ، تثير في داخل نفوسهم كل بغضاء وشنآن.
وهذا كله أوصاف وغرائز باطنية في الجماعة لا تلبث دون أن تظهر في أعمالهم وتتلاقى في أفعالهم ويماس بعضها بعضا بينهم في مسير حياتهم وفيه البلوى التي تتعقب الفتن والمصائب الاجتماعية التي تبيد النفوس وتهلك الحرث والنسل ، وقد شهدت بذلك الحوادث الجارية على توالي القرون والأجيال.
ومهما ظنت الأمم المجتمعة أن بغيتها في اجتماعها هي التمتع من العيشة المادية المحدودة بالحياة الدنيوية فلا سبيل إلى قلع مادة هذا الفساد من أصلها وقطع منابته فإن الدار دار التزاحم ، والمجتمع قائم على قاعدة الاختصاص ، والنفوس مختلفة في الاستعداد ، والحوادث الواقعة والعوامل المؤثرة والأحوال الخارجة دخيلة في معايشهم وحياتهم.