فهذا كله بيان لكونهم غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ، حيث إنهم غير نائلين ما قصدوه من إثارة الحروب على النبي صلىاللهعليهوآله والمسلمين ، وما اجتهدوا لأجله من فساد الأرض.
قوله تعالى : « (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) (إلخ) عود إلى حال أهل الكتاب عامة كما كان بدأ الكلام فيهم عامة ، وختم الكلام بتخليص القول في ما فاتهم من نعمة السعادة في الآخرة والدنيا ، وهي جنة النعيم ونعمة الحياة السعيدة.
والمراد بالتقوى بعد الإيمان التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التي تحتم السخط الإلهي وعذاب النار ، وهي الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التي أوعد الله عليها النار ، فيكون المراد بالسيئات التي وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب ، وينطبق على قوله سبحانه : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً » : النساء : ٣١.
قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ » المراد بالتوراة والإنجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليهالسلام دون ما بأيدي القوم من الكتب التي يذكر أنه لعبت بها يد التحريف.
والظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داود الذي يسميه القرآن بالزبور ، وغيره من الكتب.
وأما احتمال أن يكون المراد به القرآن فيبعده أن القرآن نسخ بأحكامه شرائع التوراة والإنجيل فلا وجه لعدهما معه وتمني أن يكونوا أقاموهما مع القرآن الناسخ لهما ، والقول بأن العمل بالقرآن عمل بهما أيضا ، كما أن العمل بالأحكام الناسخة في الإسلام عمل بمجموع شرائع الإسلام المتضمنة للناسخ والمنسوخ جميعا لكون دين الله واحدا لا يزاحم بعضه بعضا ، غاية الأمر أن بعض الأحكام مؤجلة موقوتة من غير تناقض يدفعه أن الله سبحانه عبر عن هذا العمل بالإقامة وهي حفظ الشيء على ساق ، ولا يلائم ذلك الأحكام المنسوخة بما هي منسوخة ، فإقامة التوراة والإنجيل إنما يصح حين كانت