ويوجد في القرآن الكريم موارد متفرقة يذكر فيها العفو من غير ذكر سببه وإن كان التدبر فيها يهدي إلى إجمال ما روعي فيها من المصلحة وهي مصلحة الدين كقوله تعالى : « وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » : آل عمران : ١٥٢ ، وقوله تعالى : « أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ » : المجادلة : ١٣ وقوله تعالى :« لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ » : التوبة : ١١٧ وقوله تعالى : « وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ » : المائدة : ٧١ ، وقوله تعالى : « الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ » : المجادلة : ٣ ، وقوله تعالى : « (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ـ إلى أن قال ـ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) » : المائدة : ٩٥.
فهذه موارد متنوعة من العفو الإلهي وقد بينا خصوصية كل منها في الكلام على الآية المشتملة عليه من الكتاب فليراجع.
وليس من قبيل ما تقدم قوله تعالى : « عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ » : التوبة : ٤٣ فإنه دعاء نظير قولنا : غفر الله لك لم فعلت كذا وكذا ، ونظيره على الخلاف قوله تعالى « إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ » : المدثر : ١٩ وليس من ذاك القبيل أيضا قوله تعالى : « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ » : الفتح : ٢ ، ويدل على ذلك جعل المغفرة غاية متفرعة على فتحه تعالى مكة لنبيه ولا رابطة بين مغفرة الذنب بمعنى الإثم وبين الفتح ، وسيجيء تمام الكلام في محله إن شاء الله.
٤ ـ للعفو مراتب : لما كان العفو والمغفرة يتعلق بالذنب الذي يستتبع نوعا من المجازاة والعقاب ، وللجزاء كما عرفت ـ عرض عريض ومراتب مختلفة متشتتة أتبعه العفو في اختلاف المراتب حسب اختلافه ، وليس الاختلاف الواقع في نفس الذنب أعني التبعة السيئة التي يستتبعها العمل ؛ فالاختلاف فيها مما لا سبيل إلى إنكاره ، والجزاء