إلى الآخرة وهو في حال الإسلام إلى ربه على حد ما منحه الله آباءه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قال تعالى : « (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ـ وهو الاصطفاء ـ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ، وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) » : البقرة : ١٣٢.
وهو قوله : « تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ » يسأل التوفي على الإسلام ثم اللحوق بالصالحين ، وهو الذي سأله جده إبراهيم عليهالسلام بقوله : « رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ » : الشعراء : ٨٣ فأجيب إليه كما في الآيات المذكورة آنفا وهذا آخر ما ذكر الله من حديثه وختم به قصته ، وأن إلى ربك المنتهى ، وهذا مما في السياقات القرآنية من عجيب اللطف.
ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن نبيه موسى عليهالسلام في أوائل نشوئه بمصر حين وكز القبطي فقضى عليه : « قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » : القصص : ١٦ وقوله حين فر من مصر فبلغ مدين وسقى لابنتي شعيب ثم تولى إلى الظل فقال : « رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » : القصص : ٢٤.
وقد استعمل عليهالسلام في مسألتيه من الأدب بعد الالتجاء بالله والتعلق بربوبيته أن صرح في دعائه الأول بالطلب لأنه كان متعلقا بالمغفرة والله سبحانه يحب أن يستغفر كما قال : « وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » : البقرة : ١٩٩ وهو الذي دعا إليه نوح فمن بعده من الأنبياء عليهمالسلام ، ولم يصرح بحاجته بعينه في دعائه الثاني الذي ظاهره بحسب دلالة المقام أنه كان يريد رفع حوائج الحياة كالغذاء والمسكن مثلا بل إنما ذكر الحاجة ثم سكت ، فما للدنيا عند الله من قدر.
واعلم أن قوله عليهالسلام : « رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يجري في الاعتراف بالظلم وطلب المغفرة مجرى قول آدم وزوجته : « رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » بمعنى أن المراد بالظلم هو ظلمه على نفسه لاقترافه عملا يخالف مصلحة حياته كما أن الأمر كان على هذا النحو في آدم وزوجته.
فإن موسى عليهالسلام إنما فعل ما فعل قبل أن يبعثه الله بشريعته الناهية عن القتل وإنما قتل نفسا كافرة غير محترمة ، ولا دليل على وجود النهي عن مثل هذا القتل قبل