وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) » : الشمس : ١٠ فالآيات ـ كما ترى ـ تضع النفس المسواة في جانب وهو مبدأ الحال ، والفلاح والخيبة في جانب وهو الغاية ومنتهى المسير ، ثم تبني الغايتين أعني الفلاح والخيبة على تزكية النفس وتدسيتها وذلك مرحلة الأخلاق ، ثم تبني الفضيلة والرذيلة على التقوى والفجور أعني الأعمال الصالحة والطالحة التي تنطق الآيات بأن الإنسان ملهم بها من جانب الله تعالى.
والآيات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة وهي التي أضيف إليها الفجور والتقوى ، وهي التي تزكى وتدسى ، وهي التي يفلح فيها الإنسان ويخيب ، وهذا كما عرفت جري على مقتضى التكوين.
لكن هذه الحقيقة التكوينية أعني كون الإنسان في حياته سائرا في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها ولو بخطوة ، ولا تركها والخروج منها ولو لحظة ، لا يتساوى حال من تنبه له وتذكر به تذكرا لازما لا يتطرق إليه نسيان ، وحال من غفل عنه ونسي الواقع الذي لا مفر له منه ، وقد قال تعالى : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ » : الزمر : ٩.
وقال تعالى : « فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى » : طه : ١٢٦.
وذلك أن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه ونسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره وقد كان يجدها على غير هذا النعت ومضروبا دونها الحجاب لا يمسها بالإحاطة والتأثير إلا ربها المدبر لأمرها الذي يدفعها من ورائها ويجذبها إلى قدامها بقدرته وهدايته ، ووجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال ، وعند ذلك يفقه معنى قوله تعالى : « إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » بعد قوله : « عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » ومعنى قوله تعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » : الأنعام : ١٢٢.