وأما أن هذا الطريق الذي نعرفه بحسب فطرتنا الإنسانية ما هو؟ فلئن شككنا في شيء لسنا نشك أن هناك حقائق خارجية واقعية مستقلة منفكة عن أعمالنا كمسائل المبدأ والمعاد ، ومسائل أخرى رياضية أو طبيعية ونحو ما إذا أردنا أن نحصل عليها حصولا يقينيا استرحنا في ذلك إلى قضايا أولية بديهة غير قابلة للشك ، وأخرى تلزمها لزوما كذلك ، ونرتبها ترتيبا فكريا خاصا نستنتج منها ما نطلبه كقولنا : أ. ب ، وكل ب. ج ، ف أ. ج ، وكقولنا : لو كان أ. ب ف ج. د ، ولو كان ج د ف هـ. ز ينتج : لو كان أ ب ، ف هـ. ز وكقولنا : إن كان أ. ب فج. د ولو كان ج. د ، ف هـ. ز لكن أ. ليس ب ، ينتج : هـ ليس ز.
وهذه الأشكال التي ذكرناها والمواد الأولية التي أشرنا إليها أمور بديهية يمتنع أن يرتاب فيها إنسان ذو فطرة سليمة إلا عن آفة عقلية أو لاختلاط في الفهم مقتض لعدم تعقل هذه الأمور الضرورية بأخذ مفهوم تصوري أو تصديقي آخر مكان التصور أو التصديق البديهي ، كما هو الغالب فيمن يتشكك في البديهيات.
ونحن إذا راجعنا التشكيكات والشبه التي أوردت على هذا الطريق المنطقي المذكور وجدنا أنهم يعتمدون في استنتاج دعاويهم ومقاصدهم على مثل القوانين المدونة في المنطق الراجعة إلى الهيئة والمادة بحيث لو حللنا كلامهم إلى المقدمات الابتدائية المأخوذة فيه عاد إلى مواد وهيئات منطقية ، ولو غيرنا بعض تلك المقدمات أو الهيئات إلى ما يهتف المنطق بعدم إنتاجها عاد الكلام غير منتج ، ورأيتهم لا يرضون بذلك ، وهذا بعينه أوضح شاهد على أن هؤلاء معترفون بحسب فطرتهم الإنسانية بصحة هذه الأصول المنطقية مسلمون لها مستعملون إياها ، جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.
١ ـ كقول بعض المتكلمين : « لو كان المنطق طريقا موصلا لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق لكنا نجدهم مختلفين في آرائهم » فقد استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر ، وقد غفل هذا القائل عن أن معنى كون المنطق آلة الاعتصام أن استعماله كما هو حقه يعصم الإنسان من الخطإ ، وأما أن كل مستعمل له فإنما يستعمله صحيحا فلا يدعيه أحد ، وهذا كما أن السيف آلة القطع لكن لا يقطع إلا عن استعمال صحيح.
٢ ـ وقول بعضهم : « إن هذه القوانين دونت ثم كملت تدريجا فكيف يبتني عليها ثبوت الحقائق الواقعية؟ وكيف يمكن إصابة الواقع لمن لم يعرفها أو لم يستعملها؟ وهذا